ينهي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، اليوم الأربعاء، زيارته إلى الجزائر، التي اختارها لتكون فاتحة جولته الأفريقية، التي تقوده خلال خمسة أيام إلى كل من مالي وموريتانيا والسنغال.
وتأتي هذه الجولة بعد آخر جولة أفريقية قام بها أردوغان في الفترة بين 24 و27 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وشملت السودان وتشاد وتونس.
ورغم الأجندة السياسية لهذه الزيارة التي وصفتها الرئاسة الجزائرية بالهامة، واللقاءات بين أردوغان والرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة وكبار المسؤولين في الجزائر، والتي تم فيها تدشين مسجد كتشاوة التاريخي بعد ترميمه من قبل الوكالة التركية كعربون صداقة تركية جزائرية، فإن الأجندة الاقتصادية تبدو أكثر أهمية لتكون النقطة المركزية في هذه الزيارة، والتي تعد ثالث زيارة لأردوغان إلى الجزائر والثانية له كرئيس للجمهورية منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2013، إذ وقعت الجزائر وتركيا أمس الثلاثاء على 7 اتفاقيات شراكة وتعاون في قطاعات الطاقة والسياحة والثقافة والفلاحة والطاقة والدبلوماسية.
ووفقا لبنود اتفاقية الصداقة التي وقعت بين البلدين عام 2006 تم رفع مستوى التبادل التجاري، والذي بلغ 5 مليارات دولار، وتمت زيادة حجم استثمارات تركيا في الجزائر، والتي تجاوزت في الوقت الحالي 3.5 مليارات دولار، وهو ما تجسد من خلال المركب الاستثماري التركي الأضخم في أفريقيا للصناعات النسيجية في منطقة غليزان (230 كيلو متر غربي العاصمة الجزائرية) والذي يتوقع أن يوفر 25 ألف فرصة عمل، ومشروع مصنع الحديد والصلب، واتفاقية لتمديد تزويد الجزائر لتركيا بالغاز المسال لعشر سنوات إضافية، مع زيادة الكميات بنسبة 50 في المائة، حيث تعد الجزائر رابع أكبر مورد للغاز الطبيعي إلى تركيا،. ووفق خبراء، فإن أنقرة ترغب في إبعاد احتياجاتها من الطاقة عن أية تطورات غير محمودة في المنطقة مع روسيا أو دول الخليج، من خلال تأمين حاجياتها من الطاقة من الجزائر.
وتبدي فرنسا وجهات سياسية وإعلامية مرتبطة بها في الجزائر، انزعاجها من التفوق التركي في مجال الاستثمارات على فرنسا، إذ تصدرت تركيا قائمة الاستثمار الأجنبي في الجزائر المعلن عام 2017، خاصة وأن أردوغان أعلن في زيارته السابقة نهاية عام 2014 رغبة تركيا في رفع حجم الاستثمارات في الجزائر إلى مستوى 10 مليارات دولار، وتركيز ما يقارب الألف شركة تركية لأنشطة تجارية واستثمارية في الجزائر، وهو ما يفسر ارتفاع منسوب الحشد الإعلامي الفرنسي في الجزائر ضد زيارة أردوغان، إذ تنظر باريس بعين الريبة والقلق إلى التمدد التركي في منطقة القرن ووسط أفريقيا، والشمال الأفريقي، والتي تعتبرها منطقة نفوذ حيوي واستراتيجي.
كما يتزايد قلق فرنسا من إمكانية نجاح التمدد الاقتصادي والسياسي التركي في دول شمال أفريقيا، بسبب عوامل تاريخية ودينية تجمع بين تركيا ودول وشعوب الشمال الأفريقي كالجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا وليبيا، إضافة إلى وجود قوى سياسية فاعلة في داخل هذه دول تلعب لصالح المد التركي وتحاول الاستفادة من نجاح تجربة التحول الاقتصادي في تركيا، من منظور العائد الاقتصادي لهذه الدول، على حساب المصالح الفرنسية، ناهيك عن أن المقاربات الاستثمارية التركية تبدو أكثر براغماتية، وتتيح للجزائر والدول الأفريقية تنويع شركائها الاقتصاديين، مقارنة مع مقاربات الهيمنة التي تنحاز إليها فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي في علاقتها الاقتصادية مع من تصفها بمستعمراتها السابقة.
ففي الحالة الجزائرية عرض الرئيس التركي استعداد بلاده لمساعدة الجزائر في تجاوز أزمتها الاقتصادية والمالية المترتبة عن تدني أسعار النفط، وقال "ندرك كذلك التحديات الاقتصادية التي تواجهها الجزائر نتيجة انخفاض أسعار الطاقة، ونحن على استعداد لتقديم الدعم اللازم من أجل تجاوز هذه المشكلة، وفي الوقت نفسه يتعين علينا تجنب الخطوات التي من شأنها أن تعيق النمو التجاري بين بلدينا"، مشيرا إلى أن "تركيا مستعدة لتوفير كثير من السلع للجزائر، بتكلفة أقل وبجودة عالية، بدلا من الكلفة الغالية للسلع نفسها المتأتية للاتحاد الأوروبي".
ويعتبر رئيس الكتلة البرلمانية لحركة مجتمع السلم، ناصر حمدادوش، وجود الجزائر كأكبر شريك لتركيا في أفريقيا "لا يحتاج إلى أي تفسير إيديولوجي أو تاريخي أو ديني، فالحاجة الاقتصادية البراغماتية للبلدين تتطلب ذلك، وخاصة أن الجزائر بحاجة إلى تجربة النجاح خارج إطار المحروقات، وحجم الاستثمارات التركية في الجزائر يصل إلى 3.5 مليارات دولار، بوجود ما يقارب 800 شركة ومؤسسة تركية، وبحجم توظيف يفوق 28 ألف عامل جزائري، بينما لا توظف الشركات الفرنسية التي تتجاوز 2000 شركة، وتمثل 20% من الشركات الأجنبية إلا حوالي 4000 جزائري"، مشيراً إلى وجود لوبي متماه مع الطرف الفرنسي يحاول فرملة الاستثمارات التركية.
وقال حمدادوش إن "حجم الامتيازات والإعفاءات والتعامل الاستثنائي الجزائري مع فرنسا بشكلٍ مباشر أو تحت غطاء الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لا يكاد يُقارن مع حجم العراقيل التي تتعرض لها الدول العربية والإسلامية الراغبة في الاستثمار بالجزائر، بسبب حساسية البعض من العلاقات الجزائرية التركية وبسبب خلفيات تاريخية وإيديولوجية للوبي الفرنسي في الجزائر".
وزيادة على الاعتبارات الاقتصادية، فإنه من اللافت أن بين البلدين تجربة سياسية متقاربة على صعيد سياقات تأسس الدولة على خلفية عسكرية لعب فيها الجيش الدور الأبرز بناء السلطة والتحكم في مؤسساتها، وهو ما حاول أردوغان منذ صعود حزبه العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، وبوتفليقة منذ اعتلائه سدة الحكم عام 1999، التخلص منه وإبعاد الجيش عن مؤسسة الحكم، واذا كان بوتفليقة قد عانى خلال السنوات الأولى من حكمه من محاولات تدخل الجيش في مسارات الحكم بشكل مباشر، فإن أردوغان تعرض لمحاولة انقلاب عسكرية في يونيو/حزيران 2016، ويبدو أن التقارب في التجربتين، هو ما دفع بوتفليقة إلى إعلان دعمه لأردوغان، خلال تلك المحاولة الانقلابية وعبر عن إدانته الشديدة للمحاولة الانقلابية الفاشلة التي استهدفت الإطاحة به.
ويجد المحلل السياسي حسن خلاص في تدشين الرئيس التركي لمسجد كتشاوة العثماني في وسط العاصمة الجزائية، بعد ترميمه من قبل الوكالة التركية، خطوة ذكية من قبل أردوغان للدخول إلى الجزائر من البوابة الثقافية والدينية والتاريخية، برغم بعض الخلافات التي لا يغفلها المتابعون لتطور العلاقات بين تركيا والجزائر، وذلك في تقدير عدد من المواقف إزاء بعض القضايا الدولية والإقليمية، كثورات الربيع العربي التي وقفت تركيا إلى جانبها فيما تحفظت الجزائر بشأنها بشكل كبير، وكذلك الملف السوري الذي تلعب فيه تركيا بحكم قربها الجغرافي من سورية دورا بارزا وتدعم الجيش الحر وقوى المعارضة، فيما تعتبر الجزائر أن ذلك تدخل في الشؤون الداخلية لسورية، وتواصل التعامل مع حكومة الرئيس بشار الأسد.
لكن هذه الخلافات لم تعق تطورا لافتا للعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الجزائر وتركيا، في سياق بحث أنقرة عن مرتكز قوي في المنطقة الأفريقية، تجده في الجزائر كحليف استراتيجي قوي ومتماسك في أفريقيا، يملك بنية تحتية تؤهله للنمو السريع، ويتوفر على سلسلة موانئ تطل على المتوسط وبموقع حيوي يجعله بوابة للقارة السمراء، وهو ما يشير إليه بوضوح المحلل حسن خلاص، الذي يؤكد أن "تركيا دخلت في ذات السباق المحموم بين القوى الاقتصادية على الأسواق الأفريقية، كالصين وفرنسا والولايات المتحدة والهند، وتركيا تريد مكانة لها قبل فوات الأوان، لأن تركيا أدركت، مثل الكثير من القوى، أن أفريقيا هي الخلاص في المستقبل".
وقد تفسر هذه المعطيات حرص أردوغان على التركيز على القارة الأفريقية في السنوات الأخيرة من خلال زيارته السودان وتشاد وتونس، في الفترة بين 24 و27 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وزيارته في جولته الحالية المستمرة حتى الثاني من مارس/آذار المقبل كل من مالي وموريتانيا والسنغال، وهي دول عذراء تطمح تركيا للتوسع فيها اقتصاديا، فيما تنظر إليها فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي كملفات أمنية بحتة.