"داعش" وأخواته في الأردن: تيارات منفلتة تكسر الخرائط التقليدية

22 ديسمبر 2016
من تظاهرة تطالب بإطلاق سلفيين معتقلين (خليل مزرعاوي/فرانس برس)
+ الخط -
تفرض الأحداث العنيفة التي عاشتها مدينة الكرك، جنوبي الأردن، مطلع الأسبوع الحالي، إثر كشف خلية إرهابية ترتبط بتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، إعادة ترسيم خرائط انتشار التيار السلفي الجهادي في المدن الأردنية، بشكل واقعي باتجاه مغادرة النمطية التاريخية التي وصمت مدناً دون أخرى بأنها "معاقل" لهذا التيار. مدينة الكرك التي يغلب عليها الطابع العشائري، ويعمل معظم سكانها في الأجهزة الأمنية والعسكرية، أو تقاعدوا من تلك الأجهزة، لم تكن يوماً على خارطة المدن الحاضنة للتيار السلفي الجهادي، ولم تُصنّف في يوم من الأيام "معقلاً" له. لكنها تلفت الأنظار اليوم، بعد تغافل طويل، وتحتل المشهد كما لم تفعل مدن صُنفت منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي حواضنَ للسلفية الجهادية. ما حدث في المدينة لا يمكن اعتباره سحابة صيف عابرة. وفي لملمة خيوط الحدث الإرهابي، والتي تقود كلها إلى تخطيط متأنٍ وتنظيم متماسك، وبوضعها في سياق العديد من المقدمات التي طفت على سطح المدينة خلال السنوات الخمس الأخيرة، وبالالتفات إلى أن تاريخ المدينة مع السلفية الجهادية طاوله التقادم، تثار أسئلة كثيرة حول التأخر بالالتفات إليها من باب خطر السلفية الجهادية التي ضربت جذوراً فيها، وما يفرض بالضرورة الالتفات إلى مدنٍ أخرى ما يزال التيار ترعاه فيها عين التغافل.

يؤكد الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، حسن أبو هنية، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "لا توجد منطقة في الأردن لا يوجد فيها تعاطف أو خلايا نائمة". وعن الكرك يقول: "المدينة معقل للتيار، شارك العديد من أبنائها بالقتال في أفغانستان خلال حقبة عبدالله عزام، ومنهم من شارك في حقبة أبو مصعب الزرقاوي، والآن هناك من يقاتل من أبنائها في صفوف تنظيم داعش"، معتبراً أن ما حدث "نوع من التجاهل للوجود السلفي في المدينة".

الخرائط التقليدية

الخرائط التاريخية لتوزيع السلفية الجهادية، صنّفت مدينتي معان (جنوب المملكة)، والزرقاء (شمال شرق عمّان)، على اعتبارهما معاقل للتيار. ويقول أبو هنية إن "المدينتين خزان أساسي للتيار، لكن مدناً أخرى لا تقل أهمية عن المدينتين قد أُهملت أو تم التغافل عنها، كما الكرك والسلط (وسط المملكة)، وغيرها". وساهمت في بروز مدينتي معان والزرقاء، العديد من الأحداث الصاخبة التي كان التيار السلفي طرفاً فيها، ومحاولته فرض إيقاعه على المدينتين وسكانهما، إضافة إلى خروج قيادات روحية ومرجعيات وازنة من المدينتين إلى صفوف هذا التيار، على غرار القيادي محمد الشلبي (أبو سياف)، من معان، والمنظّر العالمي للتيار عاصم برقاوي الملقب بـ"أبو محمد المقدسي"، من الزرقاء، والمنظّر عمر عثمان الملقب بـ"أبو قتادة الفلسطيني"، المقيم حالياً في الزرقاء، وهي المدينة ذاتها التي خرج منها أحمد فاضل الخلايلة الملقب بـ"أبو مصعب الزرقاوي"، الذي شغل العالم وأسست أفكاره لولادة تنظيم "داعش".

تُبيّن دراسة للباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، مراد بطل الشيشاني، عن أماكن توزيع وانتشار السلفية الجهادية في الأردن، أن 59 في المائة من أعضائها يتواجدون في العاصمة عمّان، فيما يتواجد في الزرقاء 18 في المائة منهم، بينما يوجد في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين 16 في المائة منهم، فيما بلغت النسبة في باقي مناطق المملكة 7 في المائة فقط. واعتمد الباحث في دراسته المنشورة في العام 2014، على تحليل خلفيات 85 سجيناً سلفياً، محكومين في قضايا متنوعة، بعضهم سجنوا في تسعينيات القرن الماضي.

خارج حدود النمطية
التصنيفات والدراسات، تجاوزت أو أغفلت مدناً مثل إربد (شمال المملكة)، والكرك والسلط، على الرغم من أنها شهدت حوادث صاخبة تشير إلى قوة التيار السلفي فيها. فمدينة إربد شهدت في الأول من مارس/ آذار الماضي مواجهات عنيفة مع خلية سلفية تتبع لتنظيم "داعش"، وهي المدينة التي التحق منها العشرات بـ"جبهة النصرة"، قبل أن تتوجه بوصلة سلفيتها الجهادية إلى "داعش"، خصوصاً بعد أن انحازت قيادات سلفية من المدينة لتنظيم "داعش"، على غرار عبد شحادة الملقب بـ"أبي محمد الطحاوي" والقابع في السجون الأردنية، وعمر مهدي زيدان الذي التحق بـ"داعش" ويشغل فيه منصب قاضٍ، كما تقول المعلومات الشحيحة المتوفرة عنه.

أما مدينة الكرك، التي شهدت اشتباكات مسلحة مع خلية تتبع "داعش"، فعُرفت قبل ذلك بالتحاق العشرات من أبنائها بتنظيمي "النصرة" و"داعش"، وهي المدينة الوحيدة التي ثبتت فيها محاولة التحاق فتاة بتنظيم "الدولة الإسلامية" قبل أن يتم استرجاعها من تركيا في اللحظات الأخيرة. واللافت أن بعضاً من الملتحقين بهذين التنظيمين كانوا يعملون في مؤسسات عسكرية عند التحاقهم، على غرار أحمد المجالي، الذي كان ضابطاً برتبة نقيب في سلاح الجو يوم التحق بـ"داعش".



يُبيّن مواطنون من المدينة أن نظرتهم للسلفيين، حتى الملتحقين منهم بالقتال في سورية والعراق، لم تكن تحمل عدائية، في السنوات الأولى لظهور "النصرة" و"داعش"، لكنهم يلفتون إلى أن نقطة التحول كانت بعد أسر تنظيم "داعش" الطيار الأردني معاذ الكساسبة، الذي أعدم لاحقاً حرقاً وبُث فيديو إعدامه في 3 فبراير/ شباط 2015. المواطنون الذين تحدثوا لـ"العربي الجديد"، يكشفون أن النظرة لأعضاء التيار السلفي في المدينة باتت عدائية، بعد حرق "داعش" ابن مدينتهم، ويضيفون: "أصبح كل سلفي جهادي عدواً ومصدر خطر، بغض النظر عن انتمائه". لكن تلك النظرة لم تمنع، بحسبهم، تنامي وجود أتباع التيار في مدينتهم. يُرجع أبو هنية عدم تسليط الضوء على الكرك كونها "مدينة صغيرة ومعزولة نسبياً، وانتشار الفقر والبطالة فيها أقل من مدن أخرى مثل معان والزرقاء".

وفيما لم تشهد مدينة السلط أحداثاً صاخبة على غرار مدينتي الكرك وإربد، إلا أنها شهدت في العام الماضي ظهوراً مثيراً للتيار السلفي الجهادي، عندما قام أفراد منه خلال شهر رمضان بتوزيع المياه والتمر على الصائمين في عبوات تحمل شعار "الدولة الإسلامية". كما أقدم سلفي في المدينة على تنفيذ "القصاص" بمواطن لشتمه الذات الإلهية بإطلاق النار عليه في الطريق العام. وما يجري في مدن رئيسية كانت خارج التصنيف التقليدي، قد يمتد ليشمل مدناً وبلدات أخرى، لم تكن محصنة من نزيف أبنائها باتجاه "النصرة" و"داعش"، ومن ظهور علامات التشدد.

سلفية منفلتة

لا توجد تقديرات رسمية لعدد أعضاء التيار السلفي الجهادي في الأردن، لكن الجهات الرسمية تقدّره ببضعة آلاف، فيما تُقدّر عدد الملتحقين منهم بالتنظيمات المقاتلة في سورية والعراق بنحو ألفي شخص، وهي تقديرات موضع خلاف بين الرسميين والباحثين في شؤون الجماعات الإسلامية. لكن المشكلة الأكبر لا تكمن في عدد أعضاء التيار السلفي الجهادي، بل بعدم السيطرة عليه، كما يرى قيادي سلفي تحدث لـ"العربي الجديد". يصف القيادي الذي فضل عدم ذكر اسمه، التيار بـ"المنفلت"، ويشرح أنه لا توجد قيادات ومرجعيات سلفية في الأردن تمتلك توجيهاً كاملاً للتيار، أو تأثيراً على توجهاته. ويقول إن "أعضاء التيار يتحركون بعشوائية، كل حسب مرجعيته، فهناك من يأتمرون بفتاوى داعش، وأقلية ما تزال تطيع فتاوى المقدسي وأبو قتادة، وهناك من يتحركون دون مرجعية واضحة".
وفي هذا السياق، يشرح أبو هنية أن الانقسام الذي ضرب جهاديي الأردن، جاء انعكاساً للانقسام الذي حدث داخل الجهادية العالمية. ويعتقد أن أكثر من 85 في المائة من أبناء التيار في الأردن انحازوا خلال الانقسام لتنظيم "داعش"، فيما أقلية يصفها بالتيار القديم واصلت الانتماء لـ"القاعدة" و"النصرة"، وعلى رأسهم قيادات مثل أبو قتادة والمقدسي، التي لم تعد فتاويهم ونصائحهم موضع إصغاء من قِبل أبناء التيار الجديد.

المساهمون