قدّم المفكّر العربي ومدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عزمي بشارة، خلاصة دراسته للإشكالات النظرية والعملية المحيطة بعملية الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي، والتي دوّنها في كتاب جديد سيصدر قريباً، خلال افتتاحه المؤتمر السنوي الثاني للمركز العربي، فرع باريس، بالتعاون مع مؤسسة "كوليج دو فرانس"، والذي حمل هذه المرة عنوان "ديمقراطيات في طور التشكل: البلدان العربية بوصفها مختبرًا لتحولات سياسية جديدة".
ويعالج المؤتمر الانتقال الديمقراطي عربيًا بعد الردات المحلية والإقليمية عقب 2011، وما يمكن أن تقدّمه المسارات السياسية الجارية في الدول العربية إلى الأفكار الديمقراطية ونظريات الانتقال الديمقراطي والحركات الاجتماعية، ومسألة تغلّب الدولة على الشروخ الطائفية والإثنية قبل الانتقال، وتقييم مدى قدرة الانتقال الديمقراطي على إيجاد حلول لها من خلال مؤسسات النظام الديمقراطي. ويطرح المؤتمر تعامل القوى الديمقراطية مع الجيوش وامتيازات العسكر لتجنب الصدام معهم في مرحلة الانتقال. كذلك يبحث في التجارب الديمقراطية الحاصلة في المغرب والمشرق العربيَين مع تطور الحركات الاجتماعية في الضفة الشمالية للمتوسط.
وعرَّج بشارة، في بداية مداخلته، على ما يجري حاليًّا في المنطقة العربية، خاصة في لبنان والعراق والجزائر والسودان. وفي حين لم ينف بشارة أن عملية الانتقال في بعض المجتمعات المنقسمة قد تفضي إلى حالة احتراب، كما في التجربة السورية، رأى أن ما يجري في العراق ولبنان، على العكس من ذلك، رفع عنوانًا عريضًا هو المواطَنة، أي "رفض الانتماءات الطائفية بوصفها المُنظِّم للعلاقة بين الفرد والدولة، والتأكيد على فكرة المواطَنة والدولة الوطنية ورفض فكرة الطائفية"، واعتبره "ردَّة على نتائج الثورة السورية، وعلى كل ما يمكن تسميته بالثورة المضادة في العالم العربي".
ولفت بشارة إلى أن الأساسي في ما يجري في العراق ولبنان هو أن "هذا الرفض يأتي من أدنى، فيما تؤكد النُّخَبُ السياسية، التي يفترض أن تكون عمومًا هي الأكثر حرصًا على الدولة الوطنية، تمسكها بالدولة الطائفية، وقد رأينا ذلك في تصريحات قادة سياسيين مهمين، بعضهم يسمون قادة مقاوَمة، من أنه لا بديل عن النظام الطائفي". تلك الحالة، بحسب بشارة، تمثّل مفارقة تستحق التأمل، حيث تختلف "الثقافة السياسية للنخبة عن الثقافة السياسية للجمهور".
من هذا المنطق، يصف بشارة ما يجري في لبنان والعراق بأنه "ثورة ثقافية وسياسية"، مستدركًا بأنه لا يتوقع، في الوقت ذاته، "أن يتمَّ الانتقال في هذين البلدين بإسقاط النظام دفعة واحدة وإقامة نظام ديمقراطي"، وعلّل ذلك بعدم وجود مركز قوةٍ للإطاحة به، "أي أنه لا يوجد صانع قرار يمكن الإطاحة به في لبنان والعراق، كما حدث في مصر وتونس وغيرهما، حيث يُطاح بالرئيس ثم يذهب".
وأضاف بشارة: "أعتقد أن الخطوة الحضارية الكبيرة التي تمّت في لبنان والعراق جاءت من منطلق أن جيل الشباب خرج إلى الشوارع من منطلقات "أخلاقية"، وليست أيديولوجية، ولذلك يشبه إلى حد كبير ما جرى في فرنسا سنة 1968؛ حين تشكلت حركة ثقافية لم تُسقط أنظمة ولكنها غَيّرت طبيعة البلد كله". ورأى بشارة في ذلك ملامح حركة مدنية غير مسبوقة في المشرق العربي، قائلًا "كانت دائمًا هناك حركات معادية للطائفية، ولكنها كانت حركات أيديولوجية، من أحزاب يسارية أو قومية، وتيارات هامشية، ولكن ليس تيارًا مدنيًا عامًا".
وأبدى رئيس المركز العربي تفاؤلًا حيال ذلك "البعد الأخلاقي" الذي يدفع موجة الاحتجاجات العربية الراهنة، لا سيما "بعد ما اعتقدناه من انتصار للثورة المضادة بعد الانقلاب في مصر في 3 يوليو 2013، وعودة الاستبداد"، قبل أن يتبيّنَ أن "ما كان عام 2011 و2013 هو فقط الموجة الثورية الأولى، التي ستتبعها موجات أخرى"، مشيرًا إلى أن "بذرة الحرية في المنطقة العربية قد بذرت وهي تنمو وتطلق أغصانًا بكل الاتجاهات في العالم العربي".
وخلص بشارة إلى القول إن "موضوع الانتقال الديموقراطي ليس موضوعًا هامشيًا أو مضى عليه الزمن، وإنما هو موضوع راهن يرافقنا في الثلاثين بل الخمسين سنة القادمة"، مدللًا على ذلك بالثورات التي حدثت في أوروبا بين 1789 و1884، والتي دخلت المنطقة العربية في حالة شبيهة لها، وفق تقديره، ومن ثم "يجب توقّع ما يجري في العالم العربي باعتباره سيرورة ستدوم على الأقل نصف قرن"، معتبرًا أن "الثورات التي تأتي لإسقاط نظام مباشرة لا تنتج ديمقراطية، بل عمومًا تنتج ديكتاتوريات، كمثال البلشفية والإيرانية".
وفي الشقّ النظري من تشخيصه لمفهوم الانتقال الديمقراطي، تطرّق بشارة إلى الحديث عن نظرية التحديث، التي تشكّل منطلقًا مركزيًّا للعديد من الباحثين في دراسة التحول الديمقراطي، وفق تقديره، والتي يرى أنها تعاملت مع الانتقال من مجتمعات تقليدية إلى حديثة. وأرّخ بشارة للربط بين نظرية التحديث والديمقراطية ببداية الحرب الباردة، "أولًا، لأن غالبية نظريات الديمقراطية نشأت في مرحلة الحرب الباردة، تحت ظرف تميز النظام الديمقراطي وكيفية الحفاظ عليه في مقابل المعسكر الاشتراكي"، قبل أن يطرأ تطوُّرٌ مهم جدًا في جنوب أوروبا، حيث انتقلت البرتغال واليونان وإسبانيا إلى الديمقراطية، ثم تبعتهـا موجةٌ لاحقة في أميركا اللاتينية. "وهنا نشأ تطور نظري جديد أحدثه باحثون من أميركا اللاتينية والولايات المتحدة الأميركية، حين أسسوا ما بات يُسمّى دراسات الانتقال الديمقراطي".
هؤلاء الدارسون، كما يفصّل بشارة، انتقدوا نظرية التحديث من منطلق ديمقراطي ليبرالي، وموقف مؤيد لنضالات دول العالَم الثالث وليس من منطلق يساري مرتبط بمفهوم "التبعية"؛ وكان منطلق نقدهم نابعًا من السؤال "هل يجب أن تنتظر دول العالَم الثالث توسع الطبقة الوسطى وانتشار التعليم والتمدين لكي تحلم بالديمقراطية الليبرالية؟ ماذا يمكن أن نقول لشعوبنا في ظل الديكتاتوريات الفاشية؟ هل يصح هذا، نظريًا".
من هنا، يرى بشارة أنه بعد الحرب الباردة، عمومًا، نسفت دراسات الانتقال الديمقراطي أفكار نظرية التحديث حول التحول، "كالدفاع عن مستوى التعليم والتمدين وتوسع الطبقة الوسطى والثقافة الديمقراطية العامة"، والتي لا يراها بشارة شروطًا سابقة بالضرورة للديمقراطية، "فالولايات المتحدة عندما انتقلت إلى الديمقراطية في القرن الثامن عشر كان غالبية سكانها من الفلاحين، ولم تكن نسبة التعليم فيها عالية.. وكل ما تطلبه نظرية التحديث من شعوب العالم الثالث لم يكن قائمًا في أوروبا عندما قامت الديمقراطيات فيها"، إلا أنه، مع ذلك، لا يدعو إلى تفنيد نظرية "التحديث" بالمطلق، إذ "لا يمكن الاستغناء عن فرضياتها عند الحديث، ليس عن الانتقال الديمقراطي، بل عن ترسيخ الديمقراطية".
وانطلاقًا من الواقع العربي الراهن، يبرهن بشارة على عدم دقة ما تطرحه نظرية التحديث من خلال المقارنة بين حالتين متشابهتين هما تونس ومصر، حيث نجح الانتقال الديمقراطي في الأولى وفشل في الثانية، رغم أن ثمة "إجماعًا وطنيًا في كلا البلدين، وأيضًا وحدة وطنية، ومؤسسات... ومُعدّل الدخل نفسه في مصر وتونس، ونسبة التعليم كذلك متشابهة، وحجم الطبقة الوسطى".
من هنا، يعتبر بشارة تلك الشروط التي تطرحها نظرية التحديث من نتائج الحرب الباردة، "حين أرادت أميركا أن تبرر تحالفها مع الاستبداد بالقول إن هذه الشعوب غير جاهزة للديمقراطية"، لكن "عندما انتهت الحرب الباردة تبخّرت هذه الادعاءات، وأصبحت الديمقراطية مسموحًا بها حتى عند هذه الشعوب المتخلفة. ولم يعد التحالف مع الدكتاتوريات أمرًا حتميًا، لأنه لم يعد المقياس: معي أم مع الشيوعية".
ثم استدرك بشارة بأن الحرب الباردة انتهت في كل مكان في العالم إلا في العالم العربي، الذي ظلّ "المعسكر الأميركي يتعامل معه بمنطق الحرب الباردة؛ بمعنى أنه ظل يدعم الديكتاتوريات خوفًا على ثلاثة أمور: أمن إسرائيل والنفط وما يسمّى الإرهاب الإسلامي".
ثم انتقل إلى الحالة العربية، وشدّد بشارة، في تأطيره للربيع العربي، على أنه لا يجب أن يُستهان بالكرامة الإنسانية، مستشهدًا بالحالتين المصرية والتونسية، حيث انطلقت الثورة بسبب الاعتداء الجسدي على الناس: "الإذلال كان منطلق الثورة".
ويعتقد بشارة أن العرب أضافوا شيئًا إلى نظرية الثورة: "دراسات الانتقال الديمقراطي كلها أخذت إسبانيا كنموذج، في كون الإصلاحات تأتي من أعلى، وأنه بعد الإصلاحات تنشق النخبة الحاكمة، ويحصل تفاوض ومساومة بين المعتدلين منها وبين المعتدلين في المعارضة، ويتوصلون إلى ما يسمونه ميثاقًا، وعلى أساسه يكون نظام ديمقراطي"، لكن ذلك الانشقاق لم يحدث في الحالة العربية، بينما جاء الحراك الإصلاحي من أدنى مترافقًا مع الاحتجاجات وليس العكس.
وشرح بشارة ذلك بالقول إنه "في الحالة العربية، منذ نهاية القرن الماضي، حصلت إصلاحات نتيجة لضغط أميركي ونهاية الحرب الباردة وغيرها، وأنا أعتقد أنها بسبب انخفاض أسعار النفط في الثمانينات. ولكن النُّخَب الحاكمة لم تنشقّ نتيجة للإصلاحات؛ لا في المغرب ولا في البحرين ولا في مصر أو الأردن"، واستنتج بشارة أن ذلك يدلل على "بداية تحول الأنظمة العربية إلى دول سلطانية، لا تنشقّ فيها النُّخَب؛ أي أن النخبة الحاكمة هي عبارة عن حاشية للسلطة، لا تنشق، لأنه لا توجد عدة مراكز لصنع القرار؛ ومن ثم فإن الحاكم يستطيع أن يقوم بإصلاح ثم يراجعه متى شاء".
تبعًا لذلك، يستخلص بشارة أنه حينما "لم يأت التغيير من فوق عبر الإصلاح، جاءت الثورات من تحت"، وتلك مساهمة قدّمتها الثورات العربية في دراسات الانتقال الديمقراطي، كما يعتقد بشارة، "لأنه للمرة الأولى لدينا ثورات إصلاحية؛ لا تريد أن تستولي على النظام... وإنما تطالب الأنظمة بإصلاح ذاتها".
وخلص بشارة إلى القول إن دراسته توصّلت إلى ثلاثة عوامل كانت مؤثرة في عملية التحول الديمقراطي عربيًّا: "الثقافة السياسية للنخب، والطموح السياسي للجيش، والعامل الخارجي". وضرب بشارة مثالًا على الأولى حالة تونس، حيث كانت النخبة السياسية مستعدّة للمساومة واقتسام السلطة؛ أما العامل الثاني، فيتلخّص في أنه "لا يمكن وجود انتقال ديمقراطي إذا كان الجيش معاديًا له"، مدللًّا على ذلك أيضًا بحالتي مصر، التي يملك فيها الجيش طموحًا سياسيًّا، وتونس التي لم يتدخل فيها الجيش في الشأن السياسي؛ أما في ما يخصّ العامل الخارجي، فيرى بشارة أنه "إذا كانت الدولة مهمة جيو-استراتيجيًا يصبح هذا العامل أكثر أهمية"، من هنا، فإن "تونس لم تكن مهمة جيو-استراتيجيًا، خلافًا لمصر وسورية؛ لأنه إذا صارت مصر المتاخمة لإسرائيل ديموقراطية، فإن الديمقراطية ستهدد الخليج، وخاصة السعودية والإمارات".
أربع جلسات
وشهد المؤتمر انعقاد أربع جلسات، تضمّنت الأولى، التي كانت بعنوان "البحث العلمي حول التحول الديمقراطي في العالم العربي: معطيات جديدة وتجديد للمقاربات"، ثلاث مداخلات برئاسة كلير تالون؛ تناولت المداخلة الأولى الدروس المستقاة للعلوم الاجتماعية من الثورات العربية، ودروس هذه الأخيرة من نظريات العلوم الاجتماعية قدّمها ستيفان لاكروا. وقدّم محمد ولد محمودي مداخلة حول إعادة التفكير في نموذج التحول السياسي في العالم العربي، واختتمت الجلسة بمداخلة لجليلة السباعي بعنوان "بحثًا عن نظام سياسي عربي إسلامي كنموذج: ما حصة الميراث الاجتماعي السياسي والاجتماعي التاريخي في الثورات العربية؟".
أمّا الجلسة الثانية فقد تناولت "موجة الاحتجاجات الشعبية الجديدة: مسارات ورهانات". وتدخّل فيها أربعة باحثين؛ إذ قدّم جان فرانسوا بايار ورقة حول مسارات الديمقراطية في العالم العربي من وجهة نظر العلوم الاجتماعية الأوروبية والدراسات ما بعد الاستعمارية؛ وقدّم عبد الوهاب الأفندي بحثه في المعرفة والذاكرة في سياق ثورة ديسمبر السودانية. ثم ناقش حسني عبيدي الحالة الجزائرية في ورقة بعنوان "أيّ تحوّل للجزائر في ظل النخبة العسكرية الموجودة؟".
وناقشت الجلسة الثالثة "تعثّر التحولات الديمقراطية: أسئلة النظم التسلطية والسياسات الخارجية"؛ قدّمت فيها مورييل أسبورغ ورقة بعنوان "السياسات الأوروبية والانتفاضات العربية: الفجوة بين الخطاب والممارسة". وعرض عبد الفتاح ماضي "كيف تتعامل القوى الديمقراطية مع الحكم العسكري في المراحل الانتقالية: الحالة المصرية في ضوء التجارب السابقة في أوروبا وفي العالم؟". واختتمت لولوة الرشيد الجلسة بمداخلة بعنوان "أيّ سلطة بعد التسلطية؟ العراق نموذجًا".
وأما الجلسة الرابعة والأخيرة، فقد تناولت "الحراك الشعبي والتحولات الديمقراطية في العالم العربي وأوروبا: مقاربات مقارنة"؛ قدّمت فيها أسماء نويرة ورقة بعنوان "منتجو المعرفة في ضوء التحول الديمقراطي: حالة الانتخابات التونسية نموذجًا"، تلتها مداخلة لجيل دورونسورو بعنوان "مسألة المكونات الاجتماعية في بعض دول الشرق الأوسط للمقارنة بالدول الأوروبية ومدى تأثير ذلك في المسار الديمقراطي (أشكال الحراك، القمع…)". وختم الجلسة فرانسوا بورغا بمداخلة تناولت "ما تقوله لنا القراءات الأوروبية في الربيع العربي". ثم اختتم المؤتمر أعماله بملاحظات ختامية وخلاصة قدّمها هنري لورنس.