روسيا تقود معركة تدمير إدلب

21 ديسمبر 2019
نزح 75% من سكان معرة النعمان (عارف وتد/فرانس برس)
+ الخط -
يتسع نطاق المأساة الإنسانية في الشمال الغربي من سورية، الذي يضم نحو أربعة ملايين مدني، مع استمرار التصعيد العسكري من قبل النظام السوري والروس، الذي يستهدف مدن وبلدات وقرى محافظة إدلب، في محاولةٍ لكسر إرادة المعارضة، ودفعها إلى تقديم المزيد من التنازلات السياسية، التي تصل إلى حدّ الاستسلام، وهو ما ترفضه الأخيرة، وتردّ عليها بمواجهتها حملة النظام العسكرية وتكبيد قواته خسائر فادحة. وتعتمد الحملة العسكرية للنظام وروسيا على إدلب، سياسة الأرض المحروقة في عمق المحافظة، وخصوصاً في ريفيها الجنوبي والشرقي، ما يؤدي يومياً إلى سقوط ضحايا مدنيين، ترتفع وتيرته مع اشتداد الحملة، إذ وثّق الدفاع المدني السوري مقتل 59 مدنياً خلال خمسة أيام من التصعيد على المنطقة، من 15 إلى 20 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، مع ازدياد موجة النزوح كذلك، فيما أشارت حصيلة غير نهائية إلى مقتل 12 مدنياً جراء الغارات أمس. وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن ثمانية مدنيين قتلوا جراء قصف لقوات النظام في مدينة سراقب، وثلاثة آخرين من عائلة واحدة في قصف روسي استهدف بلدة الدير قرب مدينة معرة النعمان في ريف إدلب الجنوبي الشرقي، كذلك قتل طفل في قصف جوي في منطقة جسر الشغور في جنوب غرب المحافظة. وأدى القصف أيضاً إلى إصابة أكثر من 36 آخرين بجروح. ويأتي التصعيد في وقت يبدو فيه الموقف التركي ضبابياً من التطورات في إدلب، ولا سيما مع غياب ردود الأفعال بشأن التطورات الميدانية الأخيرة، إذ عادة ما يرافق كل تصعيد عسكري من النظام وروسيا تصريحات إعلامية من وزارة الخارجية والدفاع التركيتين.

وأفادت مصادر مطلعة في وزارة الخارجية التركية، تحدثت مع "العربي الجديد" بأن التصعيد الأخير في إدلب فاجأ أنقرة، إذ يأتي على الرغم من وجود اتفاق تركي روسي خلال قمة الرئيسين رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين الأخيرة في سوتشي خلال شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، على عدم التصعيد في منطقة إدلب. وبحسب المصادر، فإن الأوضاع حالياً سيئة ولم تكن أنقرة تتوقع التصعيد بهذا الشكل، وخصوصاً أن الأهداف غير واضحة حالياً، تحديداً لجهة ما إذا كانت قوات النظام ستتقدم إلى مشارف الطرق الدولية أو أبعد منها، وهو ما يعني أنها قد تصل إلى سراقب وأريحا وجسر الشغور. لكن الهدف الواضح بالنسبة إلى روسيا، وفق ما تراه تركيا، هو السيطرة على الطرق الدولية. وبحسب المصادر في الخارجية التركية، فإن موسكو ترغب في تحقيق مصالحها بالدرجة الأولى، والصراع في المنطقة لا يتعلق بصراع النظام والمعارضة وحسب، بل هناك نزاع تركي روسي أميركي بأجندات مختلفة. وبرأي المصادر، فإن أميركا لا هدف لها على سبيل المثال سوى الضغط على روسيا، وموسكو هدفها واضح، وتطالب بالسيطرة على الطرق الدولية، في ظل غياب مواقف المجتمع الدولي، وتحديداً الاتحاد الأوروبي، الذي لا يهمه سوى أزمة اللجوء والخوف من فتح تركيا لأبواب الهجرة فقط. أما في ما يتعلق بالخيارات المتوافرة لأنقرة حالياً، فترى المصادر نفسها أنها تتمثل بالقيام بحملة دبلوماسية وضغط دولي وحسب، دون أن يكون لها خيارات ميدانية واسعة، مع تشعب الأزمة.
وفي سياق متصل، أفادت مصادر ميدانية تركية مطلعة بأن الأولويات التركية تبدلت أخيراً مع دخول الأزمة الليبية منعطفاً جديداً، إذ تحاول أنقرة تسريع إنهاء الملف السوري عبر حل سياسي مرضٍ للأطراف وعدم اتخاذ أي موقف من التطورات الميدانية الأخيرة، فضلاً عن تكليف القيادات العسكرية تكثيف العمل على الملف الليبي. ولهذه الأسباب مجتمعة، تستبعد هذه المصادر الميدانية تحركاً تركياً ملموساً حيال التطورات الأخيرة، وخصوصاً أن اتفاق سوتشي الموقّع قبل أكثر من عامين كان ينص على فتح الطرق الدولية، وهو ما لم تستطع أنقرة تنفيذه بسبب تعقيدات المشهد في إدلب، وتطورات ملف شرق الفرات. وتطابق حديث المصادر الميدانية مع أجواء وزارة الخارجية التركية لجهة عدم معرفة حجم العملية وأبعادها. لكن تطورات الخروقات والقصف يظهران أن المدن الموجودة على طول الطرق الدولية ستكون هدف روسيا المقبل.

وأمس السبت، ارتفعت حصيلة الضحايا، إثر سقوط مدنيين - بينهم طفلان - قتلى، وإصابة آخرين، جرّاء تجدد القصف الجوي على ريف إدلب، الذي طاول السوق الشعبية وسط مدينة سراقب، في الريف الجنوبي الشرقي للمحافظة. وقتل طفلٌ وأصيب والده بجروح، جراء غارة جوية استهدفت محيط بلدة بداما في ريف إدلب الغربي، فيما قتل ثلاثة مدنيين على الأقل، وجرح آخرون، بقصفٍ من الطيران الحربي الروسي على بلدة الدير شرقي في ريف معرة النعمان، كبرى مدن الريف الإدلبي الجنوبي، ومعقل المعارضة السورية الأبرز. وقصفت الطائرات الحربية التابعة للنظام، أمس، بالصواريخ، بلدة تلمنس وتل النبي أيوب في ريف إدلب الجنوبي، بالتزامن مع استهداف مماثل من الطائرات الحربية الروسية طاول بلدة الناجية في ريف إدلب الغربي، وسراقب، وبلدة خان السبل في ريف إدلب الشرقي.

من جهته، أشار "المرصد السوري لحقوق الإنسان" إلى استمرار المعارك بوتيرة عنيفة على محاور عدة في ريف إدلب الجنوبي الشرقي، بين قوات النظام والمسلحين الموالين لها من جانب، وفصائل المعارضة السورية من جانب آخر، بالتزامن مع ضربات جوية وبرية مستمرة. وذكرت وكالة "سانا" للأنباء التابعة للنظام أن قواته سيطرت أمس على قرى أم التينة والمديرسة وبرنان في ريف إدلب الجنوبي الشرقي، مشيرة إلى أن هذه القوات تواصل عملياتها في قرى سمكة وبلسم وقطرة. وأشارت الوكالة، في هذا الإطار، إلى سيطرة قوات النظام الجمعة على قرى ومزارع أم جلال وربيعة وخريبة وشعرة العجايز وأم توينة وتل محو والفريحة وبريصة وأبو حبة وتل الشيح، في ريف إدلب الجنوبي الشرقي.


وفي ظلّ التصعيد الكبير على الريف الإدلبي، يتسع نطاق الكارثة الإنسانية في الشمال الغربي من سورية، إذ أكدت مصادر محلية لـ"العربي الجديد"، أن نحو 75 في المائة من سكان مدينة معرة النعمان نزحوا شمالاً باتجاه الحدود السورية - التركية، أو إلى منطقة درع الفرات في ريف حلب الشمالي، الخاضعة للنفوذ التركي المباشر، بعدما تحولت المعرة إلى مدينةٍ منكوبة، جرّاء تدمير طيران النظام والمقاتلات الروسية جانباً كبيراً منها خلال الأيام الماضية، وخصوصاً شارع الكورنيش في وسطها. وأشارت المصادر إلى أن الطيران الحربي دمر أغلب الأسواق التجارية المحيطة بالجامع الكبير في المدينة التي تقع إلى الجنوب من مدينة إدلب، مركز المحافظة، بنحو 60 كيلومتراً. يُذكر أن معرة النعمان تأتي في مقدمة المدن السورية التي شهدت مجازر بقصف طيران النظام والطيران الروسي على مدى سنوات الثورة، حيث قتل وأصيب الآلاف من سكانها، وتعتبر أولى المدن السورية التي قصفها النظام السوري بالطيران عام 2012 مع اتساع نطاق الثورة واتخاذه قرار القضاء عليها عسكرياً. كذلك تنبع أهمية المدينة من كونها تقع على الطريق الدولي "إم 5" الذي يريد النظام السيطرة عليه، فضلاً عن رمزيتها الثورية، ما يفسّر سعي النظام إلى السيطرة عليها، بهدف تحقيق نصر إعلامي. وتدافع عن المدينة فصائل المعارضة السورية التي كبدت قوات النظام أول من أمس الجمعة خسائر فادحة، واستعادت السيطرة على قرى تل الشيح، سحال، أبو حبة، والبريصة في ريف إدلب الجنوبي الشرقي، بعد شنّها هجوماً معاكساً. وكانت قوات النظام ومليشيات تساندها قد سيطرت خلال اليومين الأخيرين على هذه القرى، بالإضافة إلى أم جلال والشعرة والربيعة والخريبة ومزرعة المحو في ريف إدلب الجنوبي الشرقي، متبعة سياسة الأرض المحروقة من خلال تكثيف القصف الجوي الروسي والسوري، وضربات راجمات الصواريخ والمدفعية الثقيلة.

في غضون ذلك، قصفت قوات النظام بالمدفعية وراجمات الصواريخ قرى وبلدات الزيارة والمشيك والسرمانية ودوير الأكراد في ريف حماة الغربي الشمالي الغربي، موقعة أضراراً مادية، فيما قُتل خمسة على الأقل من عناصر قوات النظام بكمين في أثناء محاولتهم التقدم على مواقع المعارضة في ريف اللاذقية.

إلى ذلك، نشر ناشطون سوريون أمس مقاطع فيديو لأرتالٍ طويلة من السيارات التي تحمل عشرات آلاف النازحين من ريف إدلب الشرقي ومدينة معرة النعمان جراء الغارات الجوية والقصف المدفعي للنظام والروس، في مشاهد أعادت إلى الأذهان أواخر عام 2015، وبدايات 2016، حين سبّب الطيران الحربي للنظام تهجير ملايين السوريين. وأكد "المرصد السوري" تعرض محافظة إدلب خلال الأيام القليلة الماضية فقط، لنحو 1650 ضربة جوية وبرية، أدت إلى مقتل وإصابة المئات وتهجير آلاف المدنيين.

وبالتزامن مع حملة القصف الجوي ومحاولات التقدم من قبل قوات النظام، تحدثت مصادر محلية لـ"العربي الجديد" عن دخول تسعة أرتال عسكرية للجيش التركي من الحدود السورية التركية إلى الأراضي السورية في ريف إدلب الشمالي، موضحة أنها ضمّت دبابات وآليات مدرعة وآليات لوجستية، ومن المتوقع أن تتوزع على نقاط المراقبة المتمركزة في محيط إدلب.

وفي السياق، نقل موقع "بلدي نيوز" المعارض عن مصدر عسكري مرافق لهذه الأرتال، قوله إنها "عبارة عن رتل واحد، دخل كتبديلٍ وتعزيزٍ للنقاط المنتشرة في ريف إدلب الجنوبي والشرقي في معرحطاط والصرمان وتل الطوقان. وكان ناشطون محليون قد أشاروا في وقتٍ سابق إلى أن الجيش التركي ينوي إنشاء نقطة مراقبة في قرية الرفة، الواقعة إلى الشرق من مدينة معرة النعمان بنحو 10 كيلومترات، إلا أن مصادر محلية أكدت لـ"العربي الجديد" أن الأتراك لم يُنشئوا أي نقطة حتى ظهر (أمس) السبت، موضحة أن القرية خالية من أي وجود لفصائل المعارضة أو قوات النظام. ولا يزال الجيش التركي يحتفظ بـ12 نقطة مراقبة في محيط محافظة إدلب وفق تفاهمات مع الروس، أثبتت التطورات العسكرية أن ليس لها أي قيمة، حيث لم تستطع ردع النظام الذي استهدف أكثر من نقطة خلال حملته العسكرية الأولى في مايو/ أيار الماضي، بل إن النقطة التركية في مدينة مورك في ريف حماة الشمالي محاصرة من قبل قواته. ويسود استياء وسط الشارع السوري المعارض من الصمت التركي إزاء ما يحدث في محافظة إدلب، التي تضم نحو أربعة ملايين مدني يعيشون في ظروف كارثية.

ومن الواضح أن الحملة العسكرية للنظام التي تزامنت مع بدء اجتماعات اللجنة الدستورية المنوط بها وضع دستور دائم للبلاد تأمل الأمم المتحدة أن يكون مدخلاً للحل السياسي، تهدف إلى كسر إرادة المعارضة السورية، ودفعها إلى توقيع اتفاقات مصالحة، هي أقرب إلى الاستسلام. كذلك يريد الروس إجبار هذه المعارضة على تخفيض سقف مطالبها السياسية، بحيث يجري تجاوز القرارات الدولية ذات الصلة، وخاصة بيان جنيف 1 والقرار الدولي 2254، والموافقة على حلول وفق الرؤية الروسية التي تسعى إلى إبقاء بشار الأسد في السلطة.



المساهمون