مأزق دونالد ترامب والاستخبارات الأميركية: أوباما خاسر وبوتين رابح

08 يناير 2017
يستعدّ ترامب لشطب إرث أوباما (جابين بوتسفورد/Getty)
+ الخط -
تشتعل في واشنطن حالياً نار حربين في آنٍ واحد: واحدة حول تركة الرئيس باراك أوباما الداخلية، وأخرى بين كافة أجهزة الاستخبارات ومؤيديها من جهة، وبين فريق الرئيس الجديد، دونالد ترامب من جهة ثانية، وقد ارتفعت وتيرتها بقوة، في الساعات الـ24 الماضية، بعد نشر أجهزة الاستخبارات الأميركية جزءاً من تقريرها الرسمي الذي يتهم الكرملين، مباشرة، بالتدخل في سير الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهو ما يطرح تحديات كبيرة للغاية على إدارة ترامب شخصياً، والذي اضطرّ إلى الاعتراف ضمناً بتدخل روسي "غير حاسم في تغيير نتيجة الانتخابات".


"الحرب" الأولى شنّها الكونغرس الجديد، ذو الغالبية الجمهورية، فور افتتاح دورته قبل يومين، لمحو الآثار الأساسية لرئاسة أوباما، وعلى رأسها قانون التأمين الصحي الذي يعتبره الرئيس جوهرة تاج عهده. والثانية اندلعت إثر التشكيك العلني بصدقية المعلومات الاستخباراتية التي فضحت أمر القرصنة الروسية، والتي جرت قبيل الانتخابات بهدف التأثير في انتخابات الرئاسة، عبر اختراق مواقع وحسابات الحزب الديمقراطي ومرشحته هيلاري كلينتون. كل طرف يلقي بثقله ويوظّف ما تيسّر في ترسانته من أسلحة لكسب المواجهة المزدوجة، بين إدارة مغادرة ليس لديها سوى القليل من الأوراق الدفاعية الضعيفة، وبين إدارة مقبلة مسلحة بغالبية في مجلسي الكونغرس، ما يوفر لها الموقع الهجومي الممتاز. لكن المسألة أبعد من تركة وأكثر من صدقية. هي في النهاية بداية تأسيس لمرحلة غير مسبوقة، تبدأ مع رئاسة ترامب التي تبدو مفتوحة على تغييرات صادمة.

والأهم على الساحة هي حرب المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بالقرصنة الروسية. فهي محور الحديث والصراع الجاري الذي أربك فريق ترامب، وقد يكون مكلفاً للرئيس الجديد. كافة الدوائر، حتى المحسوبة له في الكونغرس، ضده. ثمة دهشة واسعة من موقفه المدافع عن بوتين و"المستاء" من أجهزة الاستخبارات، والتي أجمعت على تصويب الوجهة نحو موسكو في عملية الاختراق، والتي جدّدت هذا الإجماع، في جلسة لبعض رؤسائها مع لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ. وبقي ترامب على موقفه، رغم ما أكده تقرير الاستخبارات الأميركية حول تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية، والذي نشر يوم الجمعة الماضي، بعد شطب فقرات سرية منه، وخلص إلى أن الكرملين سعى إلى إضعاف المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، ومساعدة ترامب. وقد اضطر الرئيس الجديد إلى الاعتراف ضمناً بأن روسيا تدخلت في مجرى الانتخابات، لكن هذا التدخل "لم يؤثر على النتيجة النهائية" بحسب تعليقه على التقرير الذي تسلم نسخة منه. ولا يتضمن التقرير، والذي تسلمه أوباما أيضاً، بنسخته المفصلة سوى القليل من المعلومات الجديدة مقارنة مع ما تم تسريبه من قبل. ويتكتم التقرير على المصادر وطرق الحصول على المعلومات، وهو الأمر الذي لن يؤدّي إلى إقناع المشككين بنتائجه، لكنه، وللمرة الأولى، يعلن بوضوح أن الكرملين اتخذ موقفاً منحازاً، وإن كان لا يسعى إلى إثبات أن بوتين غيّر نتيجة الانتخابات.

وكتب مكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي أيه) ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) ووكالة الأمن القومي أن "بوتين والحكومة الروسية كانا يفضلان بوضوح الرئيس المنتخب ترامب، وسعيا إلى زيادة فرصه في الفوز عندما كان ذلك ممكناً عبر إضعاف مصداقية هيلاري كلينتون، وتقديمها في صورة غير مؤاتية بالمقارنة" مع المرشح الجمهوري. وذكر التقرير أن تدخل روسيا في الانتخابات ليس بجديد، لكنه كان أكبر "لجهة طابعه المباشر ومستوى نشاطه واتساع نطاقه". ولا تقدم الاستخبارات الأميركية في التقرير أي معلومة حول عمليات التنصت، أو التجسس التي قامت بها بنفسها، وأتاحت لها دعم استنتاجاتها. لكن شركات أميركية خاصة بالأمن المعلوماتي أكدت أن عملية اختراق أجهزة كمبيوتر الحزب الديمقراطي تمّت من روسيا. وقد سعى الكرملين، بحسب التقرير، في الأساس، إلى أن تكون كلينتون في أضعف موقف ممكن تحسباً لوصولها إلى السلطة. وعندما بدأت الحملة الانتخابية، بدا أن موسكو كانت لا تزال تراهن على فوز كلينتون، وكان دبلوماسيون روس على استعداد للتنديد بتجاوزات و"التشكيك في صحة النتائج" وفق التقرير، والذي جاء فيه أن "مدونين مقربين من الكرملين أعدوا حملة على تويتر مع وسم Democracy RIP (وداعاً للديمقراطية) ترقباً لفوز كلينتون".

ووفق التقرير، فقد دخلت الاستخبارات الروسية إلى أجهزة كمبيوتر وشبكات "فريقي حملتي الانتخابات التمهيدية ومعاهد بحثية وشخصيات مؤثرة" في رسم السياسة الأميركية. وكتب التقرير أن جهاز الاستخبارات العسكرية الروسي دخل "إلى حسابات البريد الإلكتروني الشخصية لمسؤولين في الحزب الديمقراطي" و"استخرج كميات كبيرة من المعطيات"، واستخدم "شخصية غوكسيفر 2.0 الوهمية (أفاتار)، وويكيليكس ودي سي ليكس لنشر المعلومات" المسروقة والتأثير على الحملة. وأضاف أن روسيا اخترقت أجهزة الجمهوريين كذلك، لكنها "لم تنظم حملة مماثلة لنشر" هذه المعطيات. وقال إن روسيا اخترقت ملفات انتخابية لدى السلطات المحلية، لكنها لم تستهدف أنظمة فرز الأصوات. ويخلص التقرير إلى أن جهاز الدعاية الروسي، والذي يشمل وسائل الإعلام الحكومية وتلك الموجهة إلى الرأي العام الدولي مثل "روسيا اليوم" و"سبوتنيك" وشبكة من "المتصيدين الإلكترونيين" (ترولز) "ساهم في حملة التأثير، وشكل منصة لنشر رسائل الكرملين". وأضاف أن تغطية حملة كلينتون كانت "باستمرار ذات طابع سلبي" على قناة "روسيا اليوم" وموقعها، و"روسيا اليوم" اتهمتها "بالفساد وأنها تعاني من مشكلات صحية جسدية ونفسية، وأنها على علاقة بالإسلام المتطرف". ووظفت روسيا كذلك "المتصيدين الإلكترونيين" لمهاجمة كلينتون ورسم صورة مؤيدة لترامب على مواقع التواصل، وفق التقرير الذي يشير خصوصاً إلى "وكالة البحث على الإنترنت" في سانت بطرسبرغ. وكتب "نعتبر أن موسكو ستأخذ العبرة" من هذه الحملة من أجل القيام "بمحاولات جديدة للتأثير في العالم بأسره".

وبصرف النظر عما قد ينتهي إليه الجدل غير العادي حول هذا الموضوع، فإن تداعياته باقية ومرشحة للتفاقم. أبرزها أن العلاقة بين الرئاسة الجديدة وهذه الأجهزة الـ 17، والتي تُعتبر بمثابة عين وأذن الرئيس الأميركي، قد اهتزت ودخلها النفور المتبادل. الرابح الأول هو بوتين الذي نجح، بقصد أو من دونه، في دق أسفين الخلاف، وزرع الارتياب والشكوك، بين فريق ترامب والأجهزة المعنية والأوساط المتعاطفة معها، بمن فيهم أركان الجمهوريين، خصوصاً في مجلس الشيوخ، ما سيؤدي إلى تصدع مبكر في الجبهة الموالية لترامب. والأخطر، بالنسبة إلى هذه الدوائر، ومن وقف في صفها من نخب ومرجعيات وصناع رأي، أن هذا التطور أدّى إلى خلل في انتظام عملية صناعة القرار الأميركي، والذي بات مفتوحاً على المزيد من الخلل إذا استمر ترامب في خطه.

أما حرب التركة، في شقها المحلي خصوصاً، فقد أصبحت محسومة تقريباً لغير صالح أوباما. ويستعجل الجمهوريون إعداد مشاريع القوانين التي تطيح ببرامجه، والتصويت عليها، لتكون جاهزة لتوقيع ترامب فور تسلمه زمام القيادة، بعد نحو أسبوعين. كما يجري إعداد قائمة بالمراسيم التنفيذية التي أصدرها أوباما، المتعلقة بالهجرة والضوابط المالية وغيرها، لشطبها بمراسيم رئاسية مضادة يوقعها ترامب في يومه الرئاسي الأول. ورشة عمل في الكونغرس تعكف على إزالة آثار أوباما المحلية. بل ما أمكن من سياساته الخارجية، أو تبني نقيضها. ففي مجلس الشيوخ، ومجلس النواب على خطاه، مشاريع قرارات بإدانة قرار مجلس الأمن بشأن المستوطنات الإسرائيلية ودعوة الأمم المتحدة للتراجع عنه، تحت التهديد بوقف دفع حصة أميركا، والتي تعادل 20 في المائة، من موازنتها. كما أن هناك مشروعاً آخر لنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وفيه نص يبطل حق الرئيس المعطى له في قانون 1995 بتأجيل النقل لمدة ستة أشهر قابلة للتجديد بصورة مفتوحة. وفي هذا المجال انضم عدد من الديمقراطيين إلى الجمهوريين الذين يملكون الغالبية في الكونغرس لضمان تمرير هذه المشاريع المؤيدة لإسرائيل، والتي أعلن ترامب عزمه على التوقيع عليها.