كوبنهاغن ترفض بيع غرينلاند... وترامب يعقد العلاقات مع حلفاء بلاده التقليديين

19 اغسطس 2019
مواقف ترامب تزعج الجميع (Getty)
+ الخط -

تسببت تصريحات للرئيس الأميركي دونالد ترامب، اليوم الاثنين، عن احتمال إلغاء زيارته المعلن عنها إلى الدنمارك، يومي 2 و3 سبتمبر/أيلول القادم، وكشفه عن طرح شراء جزيرة غرينلاند رسميا من قبل مستشاره الاقتصادي بالبيت الأبيض لاري كودلو، وانزعاجه من إجماع الدنماركيين على عدم بيع الجزيرة، بمزيد من التشقق في العلاقة مع حليف غربي تقليدي كالدنمارك.


فإلى جانب قضية غرينلاند، يبدو أيضاً أن فشلاً ذريعاً مني به الرجل في الكواليس أثناء محاولة خلق اصطفاف عسكري دنماركي، عكس المرات السابقة، لإرسال فرقاطة إلى مضيق هرمز ضمن مساعي الرجل تأمين "تحالف" أو إرسال جنود لتعويض انسحاب أميركي من الشمال الشرقي السوري، وفقا لمعلومات خاصة لـ"العربي الجديد" في كوبنهاغن.

وأكدت المصادر أن "اليسار ويسار الوسط أفشل محاولتي مفاوضي ترامب الذين يحضرون لزيارته في إيجاد مسوغات لموافقة دنماركية على مشاركة عسكرية".
وشن اليمين واليسار في الدنمارك هجوما حادا على "وقاحة" ترامب، كما عبر مسؤول السياسات الخارجية في حزب "الشعب" الدنماركي المتشدد سورن اسبرسن، في معرض انتقاده لتصريحات ترامب. ورأى اسبرسن أن تلميح ترامب لإلغاء زيارة كوبنهاغن "فيه إهانة للملكة (مارغريتا الثانية) التي دعته لزيارة رسمية".
ويرى اليسار أن تصريحات ترامب عن أهمية شراء الجزيرة الدنماركية لمصلحة أميركا الاستراتيجية "ينم عن عقلية استعمارية". وذهب القيادي في حزب "اللائحة الموحدة"، سورن سوناغورد، إلى الطلب من رئيسة الوزراء، ميتا فريدركسن، أن تبادر إلى إلغاء زيارة ترامب على خلفية تصريحاته وإصراره على التدخل في شؤون البلد.
كذلك شجب "تلك العقلية التي يحملها ترامب بتصريحات مستفزة وغير مقبولة لفرض رغبته بشراء جزيرة يقطنها سكانها الأصليون الـ55 ألفا والذين لديهم وحدهم حق تقرير المصير". ورفضت فريدركسن، التي اعتبرت واشنطن حليفا مهما للدنمارك، فكرة بيع الجزيرة بالمطلق. وأدت تصريحات ترامب عن "نحن نحمي الدنمارك" وحول "تكاليف مالية تدفعها الدنمارك سنويا وتقدر بـ700 مليون دولار للجزيرة" إلى موجة غضب لدى مختلف الاتجاهات.
وبالرغم من أن جزيرة غرينلاند شكلت تاريخيا حجر زاوية في المصالح الاستراتيجية الأميركية، أثناء فترة الحرب الباردة، واستمرار وجودها العسكري فيها من خلال قاعدة لها منذ 1946، إلا أن الصراع على موارد المنطقة القطبية الشمالية، وانكشاف طريق تجاري جديد بفعل تغيرات مناخية ملحوظة، بات يفرض نفسه على أقصى شمال العالم.

وباتت الجزيرة محط تنافس واضح خلال الأعوام القليلة الماضية، وخصوصا بين موسكو وواشنطن، ومحاولة الصين أيضا استغلال تلك المنطقة، ما يجعل الدنمارك، صاحبة السيادة على الجزيرة ومياهها الإقليمية، تحت ضغوط متزايدة. وللمفارقة هذه المرة تأتي من حليف تاريخي في الوقت الذي وسعت فيه كوبنهاغن من وجودها العسكري في مواجهة محاولات روسية للتمدد أو الاقتراب من الجزيرة، تماما كما هي سياساتها الدفاعية في البر الدنماركي أو جزيرة بورنهولم في بحر البلطيق.
وتعيد تصريحات ترامب حول علاقة بلده بحليف قريب، شاركه معظم حروبه، من أفغانستان إلى غزو العراق، ذلك التوتر الذي خلقته سياساته منذ أصبح رئيسا للولايات المتحدة. فقد تميزت تصريحاته ومطالبه، وفقا لما يراه معلقون ومراقبون وساسة دنماركيون بـ"عنجهية" وتعبير عن "ليبرالية جديدة" يسوقها مساعدو ترامب ومستشاروه.

أميركا أولا..

منذ 2016 تركزت قراءة ترامب لعلاقته بالحلفاء الغربيين، وبالأخص أعضاء حلف شمال الأطلسي، بمفهوم مرتبط بالمال والإنفاق، فظلت مسألة وصول الدول الأعضاء إلى تخصيص 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي كحد أدنى في مجال الدفاع خطا ثابتا في توتير علاقته بالحلفاء على الضفة الأخرى للأطلسي.

ودفع ذلك التوتر في مناسبة غير بعيدة في العام الماضي، إلى تكرار ترامب وصف حلفاء واشنطن التقليديين في الاتحاد الأوروبي بأنهم من "الأعداء"، ما أثار ردود فعل واضطرار لالتقاء الطرفين، وسط مخاوف من استغلال روسي للخلافات الأوروبية الأميركية في ملفات عديدة، على استعادة بعض التوازن في العلاقة.

ورغم ذلك، لم تهدأ حالة التوتر بشكل كامل بعدما لمس الأوروبيون ما يشبه تلاقيا بين ترامب، بعقلية أقرب إلى عقلية مستشاره السابق اليميني المتطرف ستيف بانون، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في استهداف الاتحاد الأوروبي والسعي إلى تفككه أو إحداث شروخ بين دوله على الأقل بهدف إضعافه كتكتل عالمي منافس. وتبدى للأوروبيين موقف ترامب في نهجه لعقيدة "أميركا أولا" في دعمه لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، واستمراره تلميحا وتصريحا بما كرره عن سياسة "الحماية غير المجانية".
فعقيدة ترامب المرشح والرئيس لاحقا لم تتغير في نظرته إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) كتشكيل "عقيم" (NATO is obsolete)، كما أشار بنفسه، بحسب "واشنطن بوست"، في نهاية مارس/آذار 2016.

ورغم اللقاء الذي عقده أمين عام الحلف ينس ستولتنبيرغ مع ترامب في 2017، ظلت الانتقادات تلاحق حلفاء أميركا التقليديين على الضفة الأخرى للأطلسي، ولم تتراجع مخاوف الأوروبيين من قراءة وفهم ترامب للسياسات الأمنية في أوروبا على مدى العامين الماضيين. في مرات عديدة اضطرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، كما غيرها من الحلفاء الغربيين، للدخول في سجال وردود على خطاب ترامب الاستعلائي في استخدام مفردات لم يتعود عليها حلفاء واشنطن عن الدفع بمزيد من الأموال والحماية. ففي مايو/أيار 2017 ذهبت ميركل إلى قراءة الواقع الجديد باعتبار أن "القارة الأوروبية لا يمكنها أن تجعل مصيرها بيد الأميركيين"، وذلك بعد اللقاء الأول في واشنطن بينها وبين ترامب.
وعلى مدى العامين الماضيين كرر دونالد ترامب، بعقلية رجل الأعمال، شعارات "أميركا أولا" وجعل أميركا عظيمة مرة أخرى، في مخاطبته للحلفاء، وهو ما كان يشير إليه أثناء فترة ترشحه وحملته الانتخابية.


فلم يكن حديثه المتكرر عن "الحلب"، وهي المفردة التي استخدمها بنفسه، في طلب المال السعودي، وشرحه لجمهوره ومؤيديه ما دار بينه والملك السعودي سلمان بن عبد العزيز أثناء مكالمات هاتفية، سوى في السياق ذاته الذي يؤمن من خلاله ترامب أن ما قامت عليه السياسة الأميركية من تبشير بالقيم والأخلاق يتغير لمصلحة أن كل شيء قابل للمقايضة بالمال والمصالح أولا وأخيرا، وبالتعبير الصريح والفج عنها بعيدا عن اللباقة الدبلوماسية. فقد تكرر الأمر أكثر من مرة، وبُرر كثيرا، أقله عربيا، بأنها تصريحات "للاستهلاك المحلي في سياق محاولة ترامب إعادة انتخابه". لكن، الملاحظ أن تلك التصريحات، في ما خص السعودية، مثلا، لم تتغير لا قبل انتخاب الرجل ولا بعده، وهي تعبير واضح عن عقيدة ترامبية لمعسكر أميركي أوسع من الرجل نفسه، وإن بدت على السطح شعبوية، فهي في العمق انعكاس لعقلية تاجر أو رجل أعمال ولتيار يمين متطرف متغلغل في دائرة ترامب.


وشكلت تلك التوجهات الترامبية حالة ضغط توتر واضحين في أوروبا منذ بداية 2017. ففي تلميحات ترامب طلب المال والضغط يمكن النظر مثلا إلى اليابان ودول الشمال بما فيها ألمانيا.

في الحالتين استخدم لغة مشابهة للغته عن حمايته لدول خليجية، وبالأخص السعودية، ومئات مليارات التي تدفعها لمشاريع تسلح، بتخويفها من إيران، مخوفا اليابان من مخاطر تحركات صينية وكورية شمالية في آسيا، وروسية في أوروبا، وفي الأخيرة برزت ضغوط ترامب العديدة على دول مثل دول البلطيق وبولندا وألمانيا والدنمارك.

وأدت ضغوطه تلك على برلين وكوبنهاغن إلى تعطيل مرور خط غاز روسي عبر المياه الدنماركية في بحر البلطيق نحو ألمانيا، التي اتهمها بوضوح بأنها تعرض نفسها لضغوط مستقبلية من موسكو بسبب ذلك الخط، ما جعل التوتر باقيا حتى يومنا بين الطرفين. ولعل أصعب ما في علاقة الأوروبيين بترامب أن الأخير "يصعب التنبؤ بمواقفه وسياساته"، بحسب ما يذهب إليه كثيرون في الشمال الغربي الأوروبي وهم يقيمون سياسات الرجل المنفرة للحلفاء التقليديين على ضفتي الأطلسي.