تدخل قضية الصحافي والكاتب السعودي جمال خاشقجي أسبوعها الثالث، وقد أخذت مجرى جديداً، بعد اعتراف الرياض، فجر السبت الماضي، بمقتله في القنصلية التي دخلها في 2 أكتوبر/تشرين الأول الحالي من أجل تصديق أوراق شخصية، ولم يخرج منها حياً. وعلى الرغم من الاعتراف السعودي بالجريمة، فإنه لم يغيّر في واقع الأمر شيئاً، فأوراق القضية تبقى في يد تركيا، وهي وحدها من تتحكم فيها حتى الآن، وتستطيع أن تبقيها حية وتأخذها إلى منعرجات قانونية بوصفها جريمة سياسية من طراز خاص، وإرهاب دولة منظّما، تم على أراضيها ضد شخصية إعلامية دولية معروفة. وفي الوقت نفسه، يمكن لأنقرة أن تخفّف من حدّة القضية، وتتعامل معها بحكم عملية شجار، على حد وصف البيان السعودي الرسمي، الذي اختصر تصفية خاشقجي في حادث جنائي عادي.
تمتلك تركيا عدة أوراق قوية كي تُبقي القضية حية، وتأخذها إلى الحكم القانوني والسياسي الذي يتناسب معها. أولى هذه الأوراق هي الأدلة على القتل المدبر، والتي تُسقط الرواية السعودية الرسمية حول الشجار في القنصلية، وغير الرسمية التي تحمّل فريق الـ15 مسؤولية تجاوز أهداف المهمة، وهي خطف خاشقجي. وتفيد مصادر تركية بأن بعض هذه الأدلة التي بحوزة أنقرة تم كشفها، وبعضها الآخر متروك للحظة الإعلان النهائي عن نتائج التحقيق، ولكن ما تم كشفه لبعض الدول المعنية بالجريمة، مثل الولايات المتحدة، يكفي وحده من أجل إدانة السعودية على أعلى المستويات، وبشخص ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. وتقول المصادر إن التسجيلات الخاصة بتصفية خاشقجي في القنصلية تتضمن تفاصيل حول دور بن سلمان وبالاسم، وتؤكد تسريبات أن هناك مكالمات من قبل بعض المنفذين تمت مع فريق بن سلمان للتنسيق حول إخراج الجريمة، وتم اعتراضها وتسجيلها من قبل الأجهزة التركية.
ويكشف مصدر سياسي تركي أن واشنطن تضغط على أنقرة من أجل عدم إعلان كافة التفاصيل التي بحوزتها، وتتحجج أوساط البيت الأبيض بضرورة العثور على الجثة التي يزداد الغموض، كل يوم، حولها والمكان الذي انتهت إليه.
الورقة الثالثة هي التحقيق الدولي، ويمكن لتركيا أن تلعب هذه الورقة من خلال طلب لجنة تحقيق دولية خاصة، سواء عن طريق الأمم المتحدة، أو محكمة الجنايات الدولية، أو لجنة خاصة، وهذا أمر يلقى صدى لدى بعض الدول الأوروبية، خصوصاً ألمانيا وفرنسا. وكانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد اعتبرت الرواية السعودية غير مقنعة، كما وصف وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، ما حصل بأنها عملية قتل وليس وفاة، كما تقول الرواية السعودية. وأضاف أن تأكيد الموت خطوة أولى نحو الحقيقة، لكن أسئلة عديدة تبقى بلا جواب، ولا بد من تحقيق "شامل ودقيق" لإثبات كل المسؤوليات ومحاسبة المسؤولين، وأن فرنسا تنتظر أن تتحرك السعودية في هذا الاتجاه.
ويمكن للموقف التركي أن يتسلّح بالعديد من العوامل المساعدة، أولها الإعلام الدولي الضاغط ضد السعودية، والذي يبدي قدراً عالياً من التضامن مع قضية خاشقجي بوصفه صحافي رأي تعرّض للقتل بسبب كتاباته. وتشارك صحيفة "واشنطن بوست" بدور أساسي في ذلك، وهي على رأس الحملة الإعلامية الدولية للكشف عن حقيقة القضية، وتمكّنت من خلق رأي عام له تأثيره داخل الإدارة الأميركية وعلى الصعيد الدولي. واللافت أن موقف الإعلام الدولي يتعاظم كل يوم بدل أن يفتر، ويتزايد عدد الصحافيين الذين يصلون إلى إسطنبول لمتابعة القضية. وحسب تقديرات مراصد إعلامية دولية، فإن القضية حظيت بقدر من الاهتمام الإعلامي فاق كل التقديرات.
العامل الثاني هو الرأي العام المحلي والدولي، ويُلاحَظ أن الشارع التركي يتابع القضية باهتمام شديد، وقد تحوّلت إلى القضية رقم واحد في اهتمامات الأتراك، ويمكن رؤية مدى الاهتمام من الصحف ونشرات الأخبار على قنوات التلفزة التي تعطي القضية حيزاً واسعاً في تناولها. وعلى المستوى الدولي لا يقل الأمر أهمية، إذ أصبحت القضية الشأن الدولي الأساسي في متابعات الصحافة العالمية، خصوصاً الأميركية.
أما العامل الثالث فهو الموقف الحقوقي الدولي الذي تمثّله المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، ويمكن لتركيا أن تحرك هذه الورقة بقوة، وتساندها في ذلك منظّمات مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، وهيئات واتحادات الصحافة الدولية التي سبق لها أن دانت الموقف السعودي، وهي جاهزة لتشكيل ظهير لأي موقف يدفع القضية إلى المحاكم الدولية من أجل الاقتصاص من الجناة.
والعامل الرابع هو الارتباك السعودي، والذي يتجلّى في عدم القدرة على تقديم الرواية الفعلية لتصفية خاشقجي، وعلى الرغم من الاعتراف الرسمي يوم السبت، فإن مصدراً سعودياً رسمياً قدّم لوكالة "رويترز"، بعد 24 ساعة، رواية تناقض الرواية الرسمية، وهذا دليل على عدم وضوح الرؤية في التعامل مع القضية. ويزداد الموقف التركي قوة حين تصل السلطات التركية إلى معرفة مصير الجثة، ولذلك يجري البحث عنها بطرق عدة، منها التحري في عدة أماكن، والتحقيق مع الشهود الذين يبلغ عددهم حتى الآن أكثر من خمسين شخصاً، وهم يمثلون كل العاملين في القنصلية وبيت القنصل من الأتراك والسعوديين.
وفي رأي بعض الأوساط، يمكن للأتراك أن يقبلوا تسوية وفق عدة شروط تتجاوز تحسين العلاقات الأميركية التركية. الأول تحجيم بن سلمان، خصوصاً أنهم في وضع يسمح بتوجيه نوع من النقمة العالمية ضد السعودية، التي باتت منبوذة بسبب الجريمة، ويجري النظر إليها بوصفها مملكة للتوحش والإرهاب. الثاني تصحيح العلاقات التركية السعودية بضمانة أميركية، وعلى أساس أن تدفع السعودية ثمن انتهاك السيادة التركية، والذي تكرر أكثر من مرة منذ الموقف الداعم للانقلاب في يوليو/تموز 2016. ويُعدّ التعدي الحالي هو الأخطر، ويستوجب عقوبات دولية، كما جاء في موقف الاتحاد الأوروبي، الذي اعتبر، في بيان يوم السبت، أن "ظروف مقتل جمال خاشقجي مقلقة للغاية، وتمثّل انتهاكاً صارخاً لاتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام 1963، وتحديداً مادتها رقم 55"، وطالب بإجراء تحقيق دولي شفاف في القضية. والشرط الثالث إحداث تغيير في المشهد الإقليمي، يصل إلى رفع الحصار عن قطر، ووقف التحرش السعودي الإماراتي المصري بها، وهذا سوف يقود إلى موقف أميركي صريح من عملية التخريب التي يقوم بها ثلاثي الرياض-أبوظبي-القاهرة في المنطقة.