غزة بعد جولة التصعيد: حرب شاملة أم تهدئة طويلة؟

15 نوفمبر 2018
تدرك إسرائيل أن خياراتها محدودة تجاه غزة(جاك غويز/فرانس برس)
+ الخط -
 نتائج جولة المواجهة القصيرة التي اندلعت بين المقاومة الفلسطينية في غزة والاحتلال الإسرائيلي والتي تواصلت على مدى 48 ساعة، قبل أن يستعيد القطاع هدوءه، يفترض أن تؤثر بشكل كبير على مستقبل الأوضاع في القطاع والعلاقة بين غزة وتل أبيب.
عند محاولة استجلاء نتائج هذه المواجهة، التي تعد، على الرغم من قصرها، الأعنف منذ انتهاء حرب 2014، يبدو للوهلة الأولى أنه يمكن الولوج إلى استنتاجات متضاربة بشأن تأثيرها على مستقبل الواقع السياسي والأمني والاقتصادي في قطاع غزة. من جهة يمكن أن تسهم هذه الجولة في تحسين فرص إنجاز مسار تهدئة يفضي إلى إنهاء حالة الحصار المفروض على غزة، أو على الأقل يحسن من الظروف الاقتصادية في القطاع بشكل جذري. ومن جهة أخرى، فإن بعض تداعيات هذه المواجهة يمكن أن تمهد الطريق تحديداً لاندلاع مواجهة شاملة بين المقاومة وإسرائيل.


من يستنتج أن هذه المواجهة ستحسن فرص التوصل لمسار تهدئة طويل وثابت بين إسرائيل والمقاومة قد يعزو ذلك إلى أن السلوك الإسرائيلي خلالها دلل على أن تل أبيب غير معنية بالتصعيد، إذ ردّت إسرائيل بشكل محدود نسبياً على سير المقاومة خطوة إضافية في سعيها لتغيير قواعد الاشتباك عبر قصف العمق الداخلي الإسرائيلي بصواريخ ذات قدرات تدميرية كبيرة مقارنة بالجولات الماضية.
في الواقع، فإن نخب الحكم الإسرائيلية الأكثر قرباً من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أعادت التذكير، أثناء المواجهة، بالعوامل التي تدفع الأخير إلى تجنب الانجرار إلى مواجهة شاملة مع حركة حماس.
حسب هؤلاء، فإن أية حرب شاملة يمكن أن تشنّها إسرائيل على غزة ستنتهي إلى النتائج نفسها التي انتهت إليها حرب 2014، على اعتبار أن إسرائيل ستظل تواجه تداعيات المعضلة الإنسانية في القطاع، مع كل ما ستتحمله إسرائيل من خسائر بشرية ومادية وسياسية.
إلى جانب ذلك، فإن الذين يرفضون الانجرار لمواجهة شاملة يشيرون إلى أنه لا يوجد طرف ثالث يمكن أن يتولى مقاليد الأمور في القطاع في حال عمدت تل أبيب إلى إسقاط حكم "حماس" بعد تنفيذ حرب برية في عمق القطاع، مع إيضاحهم أنه ليس في حكم الوارد التورط بإعادة احتلال القطاع بسبب ما ينطوي عليه الأمر من مخاطر استراتيجية.
إلى جانب ذلك، فإن أولئك الذين يدافعون عن قرار نتنياهو بالموافقة على وقف إطلاق النار يرون أن التهدئة مع "حماس" استحقاق تفرضه متطلبات مواجهة التحديات الكبيرة على الجبهات الأخرى، لا سيما الشمالية، والحاجة إلى تجنب أي مسار يمكن أن يؤثر سلباً على نجاح موجة العقوبات التي فرضها الإدارة الأميركية على إيران بهدف إجبارها على الموافقة على إعادة التفاوض على مستقبل برنامجها النووي.
لكن، رغم كل ما تقدم، فإن هناك ما يدفع للاعتقاد بأن الجولة الأخيرة ستمهد لاندلاع مواجهة شاملة مع المقاومة في قطاع غزة، على الرغم من كل المسوغات الاستراتيجية التي ساقها المقربون من نتنياهو لتبرير الموافقة على وقف إطلاق النار مع المقاومة.
إن أكثر العوامل التي قد تسهم في تجنب إسرائيل العودة لمسار التهدئة وتدفعها للاستعداد لشنّ حرب شاملة على القطاع يتمثل في حقيقة أن الجولة الأخيرة، على الرغم من محدوديتها، قد تركت أثاراً عميقة على الرأي العام الإسرائيلي، الذي رأى في نتائجها خنوعاً لحركة حماس.
وتجاوزت ردة الفعل الجماهيرية الغاضبة على نتائج الجولة الأخيرة موقف الجمهور الإسرائيلي من نتائج حرب 2006، التي وصفت في حينها بأنها حرب فاشلة، إذ إنه لم يحدث منذ حرب 1973، أن انطلقت تظاهرات عفوية احتجاجاً على نتائج مواجهة أو حرب مع طرف عربي، كما حدث في المواجهة الأخيرة.
وما يزيد من خطورة دلالات ردة الفعل الجماهيرية حقيقة أنها تركزت في المناطق التي تحتضن قواعد اليمين والليكود على وجه الخصوص، في سديروت، نتيفوت، أوفاكيم وغيرها.
إلى جانب ذلك، فإن استقالة وزير الأمن أفيغدور ليبرمان احتجاجاً على ما اعتبره "الخضوع الإسرائيلي للإرهاب"، ستقلص من هامش المناورة أمام نتنياهو داخل الائتلاف الحاكم وستزيد من الضغوط عليه لاستعادة الردع في مواجهة "حماس" من خلال شن حملة واسعة على القطاع.
في الوقت نفسه، فإن كلاً من المعارضة "اليسارية" ومعظم النخب العسكرية في الاحتياط ووسائل الإعلام تحرص على عرض نتيجة الجولة الأخيرة من المواجهة كخنوع لـ"حماس"، وهو ما يضعف نتنياهو ويدفعه لإعادة تقييم موقفه من أنماط التعاطي مع التحدي الذي تمثله غزة.
وهناك ما يدلل على أن نتنياهو بات لا يأخذ فقط هذه الانتقادات بالاعتبار، بل إنه لمّح بعد انتهاء الجولة الأخيرة بأن لديه نية لشن حملة كبيرة على القطاع، على الرغم من المسوغات التي ساقها حتى الآن لتبرير عدم الإقدام على هذه الحملة.
ونقلت "هارتس"، في عددها الصادر أمس، عن نتنياهو، قوله "لا يمكنني أن أقدم إيضاحات حول مخططاتنا للمستقبل، لكننا سنختار الظروف والتوقيت المناسب للعمل الملائم لأمن إسرائيل". وما يعزز الاعتقاد بأن إسرائيل ستتجه إلى شنّ عمل عسكري واسع ما أدلى به الوزير يوآف غالانت، عضو المجلس الوزاري المصغر لشؤون الأمن، في مقابلة مع قناة التلفزة الثانية، الليلة الماضية، إذ قال "قد نصل في النهاية لمواجهة شاملة، لكن وفق الظروف التي نحددها نحن وليس وفق الظروف التي تحددها حماس".
ومن الواضح أنه في حال عمدت إسرائيل لشنّ حملة عسكرية فإنها ليس بالضرورة أن تفضي إلى إعادة احتلال القطاع، بل يمكن أن تأخذ شكل توجيه ضربات جوية متلاحقة على مدى زمني طويل، وتنفيذ عمليات اغتيال واسعة، مع تنفيذ عمليات توغل محدودة، كما يدعو لذلك وزير التعليم، زعيم البيت اليهودي، نفتالي بينت.
وما يفاقم الأمور تعقيداً حقيقة أن تعذر التوصل لاتفاق مصالحة داخلية يسمح بعودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع سيقلّص من فرص نجاح الجهود الهادفة للتوافق على مسار تهدئة يفضي إلى تحسن الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في القطاع، دون أن تكون حماس في صورة المشهد.
ومن المستبعد أن تسمح إسرائيل بعد هذه الجولة بتسهيلات جوهرية للقطاع، على اعتبار أن الرأي العام الإسرائيلي سيفسر ذلك على أنه "مكافأة" لحركة حماس. وإذا سمحت تل أبيب بمثل هذه التسهيلات فقد يكون الأمر مرتبطاً بخديعة تهدف إلى دفع المقاومة للتراخي من أجل تحسين قدرة إسرائيل على توجيه ضربة موجعة لها.

المساهمون