مؤتمر التنازلات المصرية الكبرى

16 مارس 2015
الدعاية الزائفة تنفخ مؤتمر "مستقبل مصر" (خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -
انشغل الرأي العام فى مصر بطرح البدائل الاقتصادية والسياسية، لتصحيح مسار الثورة ‏وتحقيق أهدافها. وتعاملت النخب السياسية والثقافية مع رهاناتها على السيسي وانحيازاته كما لو ‏كانت التوقعات حقائق مطلقة. وكتب الكثيرون عن مدى انحياز الأخير إلى جموع الشعب الذي لم ‏يجد من يحن عليه في السابق. أثّرت هذه الدعاية المكثفة في تشكيل وعي زائف، وخاصة أن كثيرين ممّن قادوا ‏هذه الحملة كانوا محسوبين على المعارضة أيام مبارك.
‏ 
استند تحليل تلك النخب على فكرة دور الفرد في التاريخ، وتجاهلوا التحليل الاقتصادي ‏والاجتماعي، لذا لم يستطيعوا تحديد طبيعة السلطة القائمة حالياً وكذلك طبيعة انحيازاتها المرتبطة بتكوينها ‏الاقتصادي.

بعد ذلك، وحين بدأت السياسات الاقتصادية ‏تتضح شيئاً فشيئاً، انقسم بعض المنظرين ما بين الاستغراب والتبرير. حتى أن بعض المحللين، حين تم رفع الأسعار والدعم، طالبوا الشعب المصري بالصبر وامتلاك الأمل ‏وعدم التسرع في الحكم على طبيعة السلطة.

لقد فشلت مراهنات البعض على السيسي في تغيير السياسات الاقتصادية المنحازة لرجال الأعمال. فالرجل لم يقم إلا بإعادة إنتاج سياسات النهب الاقتصادي بشكل مكثف ولم يخطئ مرة واحدة في تصريحاته، ولم يقل إنه يتبنى رؤية اقتصادية تعتمد على الإنتاج وتحقيق الاكتفاء الذاتي. بل إن خطاباته واضحة وتأتي ‏كلها فى إطار تبرير سياسات التقشف التي كان آخرها التصريحات التالية: "لا بد من رفع الدعم، عشان البلد تقبّ"، و"لا بد أن نضغط على أنفسنا أكثر".

وفي هذا السياق، يأتي ‏المؤتمر في شرم الشيخ الذي يترجم سياسات النظام الاقتصادية.‏ انطلق هذا المؤتمر الاقتصادي من رؤية مفادها أن حل الأزمة الاقتصادية يتلخص في جذب رؤوس ‏الأموال. لذا قدمت الدولة تنازلات عديدة تحت مسميات "حوافز وضمانات الاستثمار".
تلك الرؤية ‏تحاول تجاوز الأزمة الهيكلية للاقتصادي المصري والتي ترتبط بطبيعة الاقتصاد الريعي، غير القادر ‏على تلبية احتياجات المجتمع. وبدلاً من معالجة هذه الأزمة، تقوم الدولة بطرح بدائل للنمو الاقتصادي معتمدة على رأس المال الخاص.

هكذا، تم إقرار عدد من القوانين التي وصفت بـ"الثورة التشريعية"، وهي بالفعل كذلك ولكنها تمثيل لمصالح ‏‏"الثورة المضادة" لا مطالب "الثورة الشعبية". ويمكن فهمها في سياق أهداف المؤتمر الاقتصادي، إذ إن أحدث تلك القوانين إلغاء "الضريبة الاستثنائية" التي تم ‏إقرارها العام الماضي ولمدة ثلاثة أعوام على كل من تتجاوز ثروته مليون جنيه.‏

كذا، هدف المؤتمر إلى استقطاب نحو 35 مليار دولار عبر طرح أكثر من 50 مشروعاً استثمارياً، تتوزع تلك المشروعات ‏على قطاعات الطاقة والتعدين والخدمات.‏ وترتبط الاستثمارات في تلك القطاعات بشكل وثيق بقرارات رفع الدعم عن الطاقة وبيعه فى السوق بسعر الكلفة كأداة لتوسيع الاستثمارات الخاصة في قطاع البترول. إذ إن رفع الدعم وبيع مشتقات الطاقة بأسعارها العالمية في مصر مع وجود ‏مزايا انخفاض كلفة الإنتاج، سوف تعظّم أرباح الشركات التي تسيطر على سوق البترول منذ 50 ‏عاماً.

‏ولكن يبدو أن هذا الإجراء لم يكن كافياً من وجه نظر المستثمرين، حيث طالبوا بتوفير الوقود ‏لمشروعاتهم بل واسترجاع مصروفات التنقيب في حالة عدم اكتشاف حقل نفطي. وكعادتها الحكومة ‏المصرية استجابت لتلك الطلبات، رغم أن الدولة لا تحصل إلا على 40% من قيمة الكميات المنتجة وتقوم ‏بشراء الباقي من تلك الشركات بأسعار تشهد ارتفاعات متكررة.

وفي القطاع ذاته، طرحت الدولة ‏عروضاً لإنشاء مصانع للأسمدة، بعد أن رفعت الدعم الحكومي عن الأسعار، برغم توافر ‏عناصر العملية الإنتاجية، الأمر الذي يعني أيضاً تعظيم أرباح المستثمرين على حساب المستهلك وعن ‏طريق نهب الموارد والثروات الطبيعية. ‏
باختصار، هذا المؤتمر دار في فلك سياسات النظام ذاتها، وفي سبيل انعقاده قدمت مصر تنازلات ضخمة، تتلخص في توسيع فرص استغلال ‏الموارد واليد العاملة ومقدرات البلد. هو ليس مشهداً يدعو للتفاؤل، إنه مشهد محزن تقدم مصر فيه قرابين باسم الاستثمار.‏
(خبير اقتصادي مصري)

إقرأ أيضا: هدر اقتصادي واحد في مصر: من مبارك إلى السيسي
المساهمون