المبشّرون بالثورة

27 ابريل 2015
لا تختلف خطابات السلطات المتعاقبة في كيل الاتهامات للعمال(Getty)
+ الخط -
كانت أجواء عام 2006 تدلّ على أن هناك ما يتبلور في مصر. الغضب الشعبي المكتوم يختمر ‏ويتّسع. لا منافذ سياسية للتعبير، الشعب يتحرّر شيئاً فشيئاً من خوفه من السلطة. وفي السياق ذاته يتشكل جيل متمرد من أبناء المفقرين لم تستطع قوى سياسية تنظيمهم‎ .‎

في هذه اللحظة، بدأت القوى العمالية في توسيع حركتها بشكل جريء ومتواتر، لتعبّرعن رفضها ‏للفساد وتخريب الشركات. تطالب بأجور تتناسب مع الأسعار.

كان الحدث الأكبر، إضراب عمال ‏المحلة (ديسمبر/ كانون الأول 2006)، والذي شجع قطاعات عمالية أخرى على الاحتجاج، وقد مثّل هذا الإضراب ‏ضربة قوية لحالة السكون والإحباط بعد تمديد حكم المخلوع حسني مبارك لفترة رئاسية جديدة.

مواجهة النظام ‏جاءت أيضاً، من عمال غزل المحلة (أحد أهم شركات الغزل والنسيج في الشرق الاوسط)، إضرابهم كسر ‏أيضاً سكوناً ساد الشركة منذ إضراب 1986. توقف 10 آلاف عامل عن العمل، ثم سرعان ما انضم 24 ألف عامل للإضراب. شجع هذا التحرك عمال قطاع الغزل والنسيج، البالغ عددهم مليون ‏عامل، لدخول موجة الاحتجاجات. وهو الأمر الذي يعني أن ثلث العمالة الصناعية في مصر يمارس فعلاً ‏احتجاجياً متنوعاً ما بين التظاهر والإضراب والاعتصام.

ثم سرعان ما انتشرت الاحتجاجات في ‏كافة القطاعات الإنتاجية والمواقع الجغرافية. عبّرت هذه الظاهرة عن مدى الغضب الشعبي، ‏وجذبت فئات أخرى إلى الاحتجاج ورفع مطالبها، فأصبحت مصر صاحبة حصاد احتجاجي ‏ملفت في الفترة ما بين 2005 ـ 2010. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن المصريين في تلك الفترة كانوا ‏من أكثر الشعوب احتجاجاً.

هذا المشهد حفّز القوى السياسية على رفع سقف مطالبها وولّد لديها ‏إحساساً بضعف النظام، كما منح هذا المشهد القوى الشبابية الأمل في التغيير، ودفع هذا ‏الوضع فئات شبابية لمساندة الحراك.

وأمام هذا التصاعد لحركة الاحتجاج، ‏صعّد النظام المواجهة. حيث شهدت العديد من المصانع تشريداً وفصلاً تعسفياً للعمال، ولم يغب ‏قطاع الغزل والنسيج عن المشهد ولم تغب المحلة بطبيعة الحال، حيث تم تحويل عدد كبير من ‏القيادات للتحقيق، والبعض نقل من الشركة لمحافظات أخرى.

لم يكن عمال المحلة وحدهم، فقد ‏شهدت الفترة من 2007 وحتى 2009 فصل ونقل وتشريد مئات القيادات العمالية. وتجاوز ‏القمع العمال إلى فئات شعبية أخرى، حين تحوّل إضراب غزل المحلة في 2008 إلى انتفاضة شعبية ‏شارك فيها عشرات الآلاف ومثّلت بروفة للثورة المصرية.

ولعمال المحلة تاريخهم وتضحياتهم، كان منها واقعة نقل وتشريد عشرات ‏العمال إلى محافظات حدودية بعد سلسلة إضرابات متتالية. عودة إلى الماضي، جرى نقل بعض القيادات العمالية في ‏‏1986 وفصل آخرين كان من ضمنهم عشرة قيادات أطلق عليهم عمال الشركة لقب "العشرة ‏المبشّرين بالجنة". ومع عودة الإضرابات في 2006، تكررت السياسة العقابية نفسها لنقل ‏وفصل العمال، كان آخرها فصل ثلاث قيادات والتحضير لنقل عدد آخر على خلفية اتهامهم ‏بتحريض العمال على الإضراب وتعطيل الإنتاج.

ينضم كمال الفيومي ورفاقه المفصولين من ‏عملهم إلى قائمة المضحين الذين دافعوا عن حقوق العمال، وإن كانت قيادات 1986 حملت لقب "العشرة ‏المبشرين بالجنة"، فإن هؤلاء وغيرهم من العمال المحتجين الذين يرفعون العدالة الاجتماعية، هم ‏القوة الوحيدة التي إذا انتظمت وتوحّدت سوف تستطيع تحقيق التغيير لكل فئات المجتمع. إذ إن ‏العمال حين يدافعون عن أنفسهم يدافعون عن المجتمع ككل، وحين يتحركون فإنهم يمارسون ‏الديمقراطية بشكل عملي، ويوسعون هامش الحريات، ويشلون أدوات القمع. ولأنهم "لن يخسروا ‏سوى الأغلال"، فإنهم يقاومون ببسالة كل آلات القمع‎.‎

وبطبيعة الحال، لا تختلف خطابات السلطات المتعاقبة في كيل الاتهامات للعمال، في حين أن هذه السلطات تستمر في تطبيق سياسات تعادي مصالح الأغلبية. يمكن من هنا فهم أسباب المواجهات العنيفة التي تقوم بها السلطة في مصر، إذ إن وجود الفئات الشعبية المفقرة والعمال في مواقع وميادين الاحتجاج، يبشّر بالتمرد ‏وبثورة تهابها السلطة.
(باحث في الإنثروبولوجيا الاجتماعية)

إقرأ أيضا: ما هي النقابة العمالية؟
دلالات