حطب من لحم ودم: الفئات الأضعف تدفع ثمن الأزمات

11 ابريل 2016
أطفال سوريون في مخيم للجوء في لبنان(سام تارلينغ/ Getty)
+ الخط -
"يسرقون رغيفك ثم يعطونك منه كِسرة، ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم"... هكذا اختصر الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني طبيعة العلاقة بين من ينتج ومن يملك في الدول العربية. حيث تتحمل فئة أكثر من غيرها تبعات الأزمات الاقتصادية والحروب من تراجع للإنتاج وارتفاع نسبة التضخم وغلاء الأسعار وانكماش الدورة الاقتصادية. وقد مرت العديد من الدول العربية بمثل هذه الظروف التي أثرت على أوضاعها الاقتصادية، لكن المفارقة أن الثمن الباهظ كان من نصيب الفئات الأكثر هشاشة على الصعيد الاجتماعي. ليدفع هؤلاء فاتورة الخيارات الاقتصادية الفاشلة مرتين؛ الأولى لِما أنتجته من تفاوت طبقي وتآكل للمقدرة الشرائية، والثانية عندما انكشف عجز هذه الخيارات عن تجاوز الهزات السياسية والأمنية التي عرفتها تلك الدول. 

رأس المال "الجبان"
في أحد الحوارات مع رئيس الحكومة التونسي السابق حمادي الجبالي، اعتبر هذا الأخير أن تدهور الوضع الاقتصادي تزامنا مع الاضطرابات السياسية التي شهدتها تونس عقب ثورة 2011 يعتبر أمراً طبيعياً بالنظر إلى طبيعة رأس المال الذي يميل إلى عدم المجازفة في ظل المناخ الضبابي. في نفس السياق، يعلق الباحث الاقتصادي محمد ياسين السوسي قائلاً إن الأزمات السياسية المتتالية التي تشهدها البلاد منذ خمس سنوات هي الدافع الرئيس وراء حالة الانكماش الاقتصادي وتراجع نسق الاستثمارات الخاصة ونسبة النمو الاقتصادية.
يضيف السوسي، أن الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والذي يمثل المستثمرين في القطاع الخاص من التونسيين، لطالما برر تراجع الاستثمار وتجميد المفاوضات حول رفع الأجور وتمكين العمال من حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية بارتدادات الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد وآثارها على المؤسسات. وهو ما يعيق جهود دفع الاستثمار ومحاربة البطالة.
في نفس السياق، يعلق النقابي منجي الوذيني أن العمال يتحملون دون غيرهم انعكاسات الأزمة الاقتصادية والسياسية. فبدعوى مراعاة الصعوبات التي تعترض المؤسسات الاقتصادية، يلجأ أصحابها إلى الحلول السهلة عبر تجميد أو تقليص كتل الأجور والتوظيفات. ليستطرد الوذيني معلقاً أن العمال والموظفين هم من يتصدرون قائمة ضحايا الأزمات السياسية والاقتصادية وهم من يدفعون ثمن إنقاذ المؤسسات الخاصة التي تلجأ عند الأزمات إلى التهرب من واجباتها الاجتماعية والتزاماتها المادية تجاه عمالها دون الأخذ بالاعتبار أن الأزمة ستكون أشد تأثيراً على محدودي الدخل في ظل ارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائية للمواطن التونسي.
فقد بلغت نسبة التضخم في المواد الغذائية في تونس سنة 2015 ما يناهز 7%، لتتجاوز في قطاع العقارات 10%. ليختم الوذيني أن الحكومة لجأت عقب عمليات سوسة الإرهابية إلى تقديم مساعدات سخية لأصحاب الفنادق تمثلت في تأجيل خلاص أقساط القروض التي يحل أجلها خلال سنة 2015 إلى سنة 2016. إضافة إلى إعادة جدولتها حسب قدرة المؤسسة على السداد ومنح قروض جديدة تسدد على 7 سنوات مع سنتين كإمهال لبداية الخلاص. وفي المقابل، لم يصدر قرار حكومي واحد بشأن 280 ألفاً من عمال القطاع السياحي وصغار التجار والحرفيين.


فاتورة الحرب يسدّدها ضحاياها
تعتبر الحرب صناعة كبرى، فخلف المقاتل يقف أصحاب المصالح السياسية والاقتصادية، فتتبادل الأدوار بين من يشحن للقتال ومن يموّل آلات القتل وأدواتها. لكن الضحية الحقيقية هي عامة الناس من الأبرياء الذين يدفعون في نهاية المطاف فاتورة الحرب الباهظة من قوتهم ورفاهيتهم وحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية.
ويشير الدكتور اليمني سليمان الهاجري إلى أن التقرير الأخير الصادر عن مركز بحوث التنمية الاقتصادية في اليمن يؤكد أن التدهور السياسي والأمني الذي يشهده البلد حالياً يقود الاقتصاد إلى وضع كارثي. حيث تم رصد انخفاض كبير في الأنشطة الاقتصادية وتوقف كثير من المشروعات الاستثمارية إضافة إلى هروب عدد من الشركات والمؤسسات الأجنبية وهروب رؤوس الأموال المحلية إلى خارج اليمن. وقد بلغت نسبة المشاريع المجمدة في مناطق الاقتتال 70%، بينما بلغت نسبة دمار المنشآت والاستثمارات القائمة 40%.
ليضيف الدكتور الهاجري أن حالة انعدام الأمن وانهيار الدولة، وتوسع دائرة المليشيات وسيطرتها على مؤسسات الدولة وتضييقها الخناق على رؤوس الأموال المحلية والأجنبية أدى إلى خلق مناخ منفر للاستثمار. هذه الوضع انعكس بدوره على الشعب اليمني، إذ تم تسريح آلاف العمال، وارتفعت نسبة البطالة إلى مستويات قياسية ناهزت 50%. أما الدولة فقد صارت عاجزة عن تقديم خدماتها الأساسية للمواطنين في مناطق النزاع، نتيجة انهيار البنية التحتية والتي قدرت خسائرها بأكثر من مليار دولار لتشمل المدارس والمستشفيات وقطاع النقل والاتصالات. هذا وتفاقم عجز الموازنة العامة وتدنت النفقات العمومية بنسبة 25.8%.

ارتفاع الأسعار ونسبة الفقر
أشار صندوق النقد الدولي في تقريره الصادر سنة 2015 حول تقييم الأداء الاقتصادي في دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط إلى أن معدلات النمو في الدول المجاورة لبؤر الصراع على غرار الأردن ولبنان وتونس لن تتمكن من تجاوز نسبة الـ 3% خلال الفترة المقبلة. وذلك، نظراً لارتدادات الصراعات المسلحة في سورية والعراق وليبيا على قطاعات النقل والسياحة واستقطاب الاستثمارات الخارجية وتباطؤ نسق الاستثمار المحلي، إضافة إلى الانعكاسات السلبية لإغلاق المعابر الحدودية على التجارة البينية.
بدوره، أكد "المركز السوري لبحوث السياسات"، في تقرير بعنوان "سوريا: مواجهة التشظي"، أن "العام 2015 عرف تحولاً في السياسات الاقتصادية نحو المزيد من النيوليبرالية، من خلال الزيادة الكبيرة في أسعار الخبز والمواد الغذائية الأساسية، والمشتقات النفطية. وأدت هذه السياسات، التي بدأت منذ العام 2014 إلى رفع الأسعار وانهيار سعر صرف الليرة السورية. الأمر الذي أدى إلى زيادة تكاليف المعيشة بالنسبة إلى معظم السوريين، ولا سيما الفقراء منهم".


ويضيف التقرير: "مع نهاية العام 2015 بات معظم السوريين يعيشون في حالة فقر، ويعانون من حرمان متعدد الأبعاد، لا يقتصر فقط على البعد المرتبط بالفقر المادي. وتشير التقديرات إلى أن معدل الفقر الإجمالي يبلغ 85.2% مع نهاية العام 2015، مقابل 83.5% في العام 2014، و73.3% في عام 2013، وتصل النسبة في بعض المحافظات إلى 91.6%".
ويقول التقرير ذاته: "استمر الركود الاقتصادي عام 2015، كما احتدم النزاع المسلح ودمر الجزء الأكبر من ثروة البلاد والبنية التحتية والمنشآت والمصادر الطبيعية. كما أعاق ديناميكيات الاقتصاد التقليدية بتجميد الأنشطة الإنتاجية وفرص العمل وإفراغ البلاد من رأس المال البشري، إضافة إلى ذلك، فإن اقتصاد العتف قد أعاد توزيع الدخل والثروة الوطنية لمصلحة قوى التسلط التي تسعى للحصول على الريع من خلال وسائل مباشرة وغير مباشرة منها الضرائب والاحتكار والنهب والإتجار بالبشر والتهريب. دفعت هذه العوامل إضافة إلى فقدان الأسر مصادر الدخل وزيادة الأسعار ونقص السلع والخدمات الأساسية، معظم الشعب السوري إلى العيش في حالة من الفقر والكفاح للحصول على ما يسد رمق العيش".

خسائر وتكاليف متزايدة
ويعلق الباحث الجامعي والخبير الاقتصادي الدولي مالك سراي بأن الوضع الأمني المتدهور في ليبيا والإغلاق المتكرر للحدود مع تونس تسبب في خسائر فادحة لأهالي المناطق الحدودية الذين يعمل 40% منهم بالتجارة الحدودية. وهو ما يكلفهم خسائر سنوية تناهز 500 ألف دولار، إضافة إلى تراجع العائدات الجبائية للدولة بنسبة 4%.
أما الأردن فقد عانى سنة 2015 من خسائر قدرت بنصف مليار دولار نتيجة عمليات النهب وغلق المعابر ومصادرة أو تدمير الشاحنات الخاصة التي تمثل مورد رزق لأكثر من 3000 أردني يعملون على خطوط النقل التجاري البري بين الأردن والعراق وسورية.
أما في ما يتعلق بلبنان، فيلفت تقرير للبنك الدولي إلى التكلفة الباهظة للعنف والصراع التي تكبدها لبنان خلال تاريخه نتيجة نظامه الطائفي. ويشير إلى أن الحرب الأهلية استنزفت نصف الاقتصاد اللبناني، والصراع الجاري حالياً في سورية كلف الاقتصاد اللبناني حتى الآن 7.5 مليارات دولار أميركي. ويقول التقرير إن الحكم الطائفي يفرض خسائر سنوية تقدر بـ 9% من الناتج المحلي الإجمالي.
ويقول الباحث اللبناني داني حداد في حديث مع "العربي الجديد"، أن أكثر الشرائح المتضررة من الفساد ومن الصراعات وغياب الموازنات العامة في لبنان منذ 10 سنوات بسبب الخلافات السياسية، هم أبناء المناطق المهمشة والأرياف. ويشرح أن الإنفاق على التنمية في لبنان لا يزال وفق المستويات التي كانت محددة في العام 2005، حين تم إقرار آخر موازنة في البلاد، وذلك بالرغم من التطور الكبير في الحاجات الإنمائية منذ ذلك الحين حتى اليوم. ويلفت إلى أن غياب الموازنة يعني عدم رصد اعتمادات وفق حاجات المناطق، ويعني كذلك عدم مناقشة هذه الاعتمادات في مجلس النواب، الذي من المفترض أن يكون ممثلاً لسكان هذه المناطق. ويعتبر أن ذلك ينعكس مباشرة على كل المشاريع الإنمائية من كهرباء وصحة وطرقات ونقل واتصالات وغيره.
المساهمون