العشوائيات العربية [1- 6]..تجمعات بغداد خزان بشري للأحزاب السياسية

09 نوفمبر 2015
العشوائيات أضاعت ملامح العاصمة العراقية بغداد (Getty)
+ الخط -
مع أن الدار التي يقطنها بدائية وليس لها سند قانوني وتفتقر إلى أغلب الخدمات الضرورية، إلا أن الأربعيني خليل غانم الزيادي، على يقين بأن أكبر مكاسبه في مرحلة مابعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، هو تحول صفته الاجتماعية من فلاح بسيط في منطقة المشخاب بمحافظة النجف جنوبي بغداد، إلى رجل مدني من أهل العاصمة، وهو ما جعله بحسب اعتقاده موضع حسد وغبطة أقاربه الباقين في مدينته السابقة.

ويروي الفلاح العراقي السابق لـ"العربي الجديد"، رحلة التحول الاجتماعي التي بدأت بعد ثلاثة أشهر من سقوط نظام الراحل صدام حسين، إذ عمد إلى تسليم أرضه الزراعية إلى أحد أبناء عمومته وباع مجموعة بسيطة من المواشي التي كان يمتلكها، لينتقل مؤقتاً إلى السكن في إحدى المواقع العسكرية المهجورة في بغداد، قبل أن يستولي على قطعة أرض تابعة لوزارة المالية، شرقي العاصمة ويشيد عليها منزله الحالي.

بعد أن ترك خليل الزيادي زراعة الأرز، التي تشتهر بها منطقته، السابقة، انتسب لاحقاً إلى مليشيا جيش المهدي وحصل منها على حق إيواء القادمين الجدد ومنحهم قطع أراضٍ مجانية، بالقرب من سكنه، وهو ما سمح بتوسع مجمع السكن العشوائي الذي بدأ به وحده، وانتهى بأكثر من 436 منزلاً تضم عوائل قدمت من مختلف المحافظات الجنوبية.

اقرأ أيضا: تردي بيئة العرب [5/7].. العراقيون يتناولون اليورانيوم في طعامهم

تحت سيطرة المليشيات


على الرغم من صدور إحصائية رسمية عن وزارة الإسكان العراقية، نهاية عام 2013، تفيد بوجود 335 تجمعاً عشوائياً في العاصمة بغداد وحدها، إلا أن عضو لجنة الإعمار في مجلس محافظة بغداد محمد الدعمي، يرى أن هذا العدد ليس دقيقاً وأنه أقل من الموجود على أرض الواقع ، مبيناً أن كل منطقة أصلية من بغداد نشأت إلى جانبها أخرى عشوائية ملحقة بها وتعتاش على خدماتها حتى بات عدد العشوائيات مساوياً لعدد أحياء ومناطق العاصمة.

الدعمي أوضح لـ"العربي الجديد"، أن ظاهرة العشوائيات في بغداد برزت مع الأيام الأولى للغزو الأميركي وكانت تقتصر في البداية على الاستيلاء على بعض المباني الحكومية ومنها مجمع الشقق السكنية في شارع أبو نواس وغيرها، لافتاً إلى أن الأمر تحول لاحقاً الى ظاهرة، إذ تم الاستيلاء على جميع المباني الحكومية والأراضي الفارغة التي شهدت وبسرعة البرق تشييد منازل وأسواق وشوارع، وتم تنصيب زعامات وقيادات في هذه المجمعات وارتبط كل منها بجهة سياسية متنفذة لتصبح العشوائيات بمثابة الخزان البشري الذي يمد هذا الحزب أو تلك المنظمة بالأتباع والأنصار.
المسؤول الحكومي الذي عمل لمدة طويلة على ملف توفير الخدمات الأساسية لهذه التجمعات السكنية العشوائية، يقدر عدد ساكنيها بأكثر من مليونين وخمسمائة ألف نسمة يتوزعون على مئات المجمعات الصغيرة والمتوسطة والعملاقة المنتشرة بجوار أحياء معروفة مثل جميلة وأور والبنوك والشعب والكرادة، قائلاً "تجهيز هذه المجمعات بالخدمات يشبه تأسيس بنى تحتية لعاصمة جديدة داخل العاصمة بغداد".

ويرى الكاتب والمحلل السياسي عدنان الحاج في موضوع العشوائيات قضية لا علاقة لها بأزمة السكن أو السعي والتنقل خلف مصدر الرزق، ويشخصها بأنها "عملية منظمة قامت بها الأحزاب الحاكمة لاستدعاء أكبر عدد من سكان المحافظات الجنوبية لتوطينهم في العاصمة من أجل ضمان أغلبية طائفية في بغداد من جهة وكسب هولاء المرحلين كأنصار ومدافعين عنهم من جهة أخرى".

المحلل الحاج يؤكد في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن كل منطقة عشوائية في بغداد تتبع لحزب أو محسوبة على تيار سياسي أو تجمع ديني وهو ما يمكن ملاحظته من صور الزعماء والشعارات المرفوعة في داخل هذه العشوائيات أو الاستعراضات العسكرية التي يتم تنظيمها بين فترة وأخرى تحت لافتة مساندة القوات الأمنية ولكنها في الحقيقة استعراض قوة لهذا الحزب أو ذاك داخل هذه التجمعات التي لا يسودها قانون ولا يعلو فيها صوت غير زعماء المليشيات المسلحة.

اقرأ أيضا: أغرب 5 قوانين في العراق..الخامس يحدد شروط نقل الأثاث

آليات التأسيس

عبر متابعة الظاهرة، يبين المحلل الحاج، أن النواة الأولى لتأسيس أي منطقة عشوائية، هي تشييد مكتب يمثل جهة دينية أو سياسية ويكون صاحب الحق الحصري في توزيع الأراضي المجاورة، قائلاً "لن يستغرق الأمر أكثر من أشهر قليلة حتى تنشأ مدينة كاملة من البيوت البسيطة والمحال التجارية والشوارع وتصبح واقعاً، لا يمكن لأي جهة بلدية أو أمنية الاقتراب منها خشية التعرض لعقاب الجهة الراعية".

من جهته يصف العقيد في استخبارات وزارة الداخلية العراقية علي نعمة الساعدي، مناطق العشوائيات بأنها كابوس أمني ولا يمكن السيطرة عليها أو بناء تصور كامل وحقيقي عنها بسبب انعدام قاعدة البيانات الخاصة بساكنيها، فضلاً عن عدم وجود مراكز أمنية داخلها وهو ما جعل منها مناطق مثالية لتواجد العصابات وبكل أنواعها وخاصةً التي تمارس أعمال الخطف للحصول على الفدى المالية.

يشير العقيد الساعدي إلى أن ملاحقتهم لإحدى العصابات في عشوائية حي أور "شرق بغداد" باءت بالفشل بسبب تكدس المنازل والممرات التي توصل بينها والطرق الملتوية والضيقة السائدة هناك، بالإضافة إلى أن عدداً كبيراً من الساكنين يمارسون وظيفة التغطية ومساعدة هذه العصابات وهو ما جعلهم يخفقون في تحرير طفل يبلغ من العمر 11 سنة وقام أهله لاحقاً باسترجاعه بعد دفع مبلغ 40 ألف دولار لعصابة العشوائيات.

الضابط الساعدي يقول لـ"العربي الجديد"، إن عملية تفتيش بسيطة قاموا بها عام 2008 لتجمع عشوائي مجاور لحي جميلة في العاصمة بغداد، أسفرت عن مصادرة مئات الأسلحة الشخصية المتنوعة ورشاشات ثقيلة وقاذفات مضادة للدروع ومدافع هاون، مبيناً ثقته بأن أغلب هذه المناطق تحوي الآن ترسانة متكاملة من الأسلحة والعتاد، الذي يتم تخزينه بشكل منتظم وبغطاء من أحزاب وجهات سياسية ترى في سكان هذه المناطق جيشها الشعبي الذي يتصدى للخصوم ويردعهم.

ويلفت ضابط الاستخبارات إلى أن تحالف الحماية المتبادل بين زعماء الأحزاب وسكان العشوائيات هو الذي أجهض مشروع إعادة هولاء السكان إلى محافظاتهم التي جاءوا منها وهي التوصية التي قدمتها لجنة أمنية مشتركة عقب دراسة مطولة للواقع الأمني المتردي في العاصمة، مستدركاً بأن تنفيذ هذه الخطة لو تم المضي بها، كان من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض معدلات الجريمة وخصوصاً عمليات الاختطاف التي تشكل هاجساً مرعباً لسكان بغداد.

اقرأ أيضا: عزة الدوري.. 3 سيناريوهات لمصير آخر رجال صدام

تحقيق الحلم

لا يخفي أبو أمير "42 عاماً" وهو أحد سكان تجمع عشوائي محاذٍ لمدينة الصدر، شرقي بغداد، ولاءه لمليشيا عصائب أهل الحق التي يرأسها قيس الخزعلي، ويجد الأمر مدعاة للفخر والاعتزاز بعد أن منحوه قطعة أرض ومبلغاً من المال استخدمه في تشييد المنزل الذي يقطنه مع عائلته الكبيرة التي التحقت به وتركت منزلها القديم في مدينة العمارة جنوبي العراق.

المقاتل الأسمر، تحدث لـ"العربي الجديد"، مشيراً بصورة مستمرة إلى صورة كبيرة لشيخه الخزعلي معلقة في صالون بيته الخالي من الأثاث، مؤكداً أن سكان مدينته الصغيرة والبالغ تعدادهم أكثر من ألفي شخص يدينون بالولاء المطلق لهذا الشخص الذي حقق حلمهم وجعل منهم ملاك عقارات في العاصمة وهو امتياز لن يتخلوا عنه مهما كلفهم الأمر، بحسب تعبيره.

يتفق أبو أمير مع الرأي القائل بأن العشوائيات جعلت من فصيلهم المسلح يمتلك الغلبة العددية في بغداد خصوصاً وأن مسؤوله المباشر زف إليهم في آخر اجتماع، وصول عدد المؤمنين المنخرطين في صفوف العصائب إلى أكثر من 50 ألف مقاتل في مناطق شرق العاصمة، بينما يرجح العدد الكلي بأكثر من ربع مليون في جميع مناطق بغداد، وهو رقم يقول إنه يتقدم وبعدد هائل عن أقرب فصيل منافس لهم وهو جيش المهدي التابع للتيار الصدري.

ويبدو أبو أمير على ثقة تامة بأن قائدهم سيقوم بتصحيح أوضاع سكن جميع العشوائيات التابعة له ويحولها إلى مدن رسمية ويقوم بتملكيهم منازلهم بشكل قانوني وذلك باستخدام نفوذه المتزايد، بينما يستبعد وبشكل كامل قدرة أي جهة على ترحيلهم وإعادتهم إلى مناطقهم ألتي قدموا منها بعد عام 2003.

ومع أن العمل على وضع تصميم جديد ومحدث للعاصمة العراقية بدأ منذ سنوات داخل أروقة مجلس محافظة بغداد، إلا أن مصدراً داخل اللجنة المكلفة بهذه المهمة، رفض الكشف عن أسمه، استبعد في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد"، الانتهاء منها بسبب كابوس العشوائيات التي أضاعت معالم العاصمة وغيرت شكلها بصورة جوهرية.

المصدر العامل بصفة (خبير) في أمانة بغداد يشير إلى أنهم وبعد إنجازهم كل مرحلة في الخريطة المحدثة يكتشفون ولادة مجمعات عشوائية جديدة وهو ما يدعوهم إلى إلغاء العمل السابق والمباشرة به من جديد، منوهاً إلى أنهم خاطبوا أعلى الجهات من أجل التدخل ووضع حد لهذا الزحف الخطير وغير المبرر، ولكنهم لم يتسلموا أي جواب حقيقي وعملي.

ويؤكد أنه أحصى نشوء 112 تجمعاً عشوائياً في سنة واحدة على أطراف العاصمة، وفوجىء خلال زياراته الميدانية لها بعدم وجود أي سلطة للجهات البلدية داخلها وأن زعماء محليين كانوا يتولون مهمة توزيع الأراضي على أقاربهم القادمين من المحافظات. و يتوقع الخبير أن ينتهي الأمر بشكل جديد تماماً للعاصمة بغداد التي ستفوق بحجمها العديد من المحافظات.

-------
اقرأ أيضا:
أمراء "داعش".. 3 مؤهلات لـ"المبايعة"