تسييس المعاناة وخصخصة الذاكرة

16 مايو 2015
قرية العراقيب في النقب الفلسطييني (فوتوغرافيا: رنا بشارة)
+ الخط -

تجتهد قراءة النكبة وكتابتها في العقدين الأخيرين، دون نجاح، في التخلّص من سجن القراءات التاريخيّة الضيّقة إلى قراءة أرحب أفقاً وأوسع مدى. ثمة اشتغال فكريّ وأدبيّ متقدّم لتحريرها تدريجيّاً من هيمنة المفاهيم الأحاديّة، حول معناها ومضامينها ورصد سيروراتها ومفارقاتها وذاكراتها المتوازية والمتقاطعة بين الفرديّ والجمعيّ، بين الشخصّي والوطنيّ، بين الخاصّ والعامّ.

وثمّة إجماع متزايد على أنّها ليست لحظةً تاريخيّة فاصلة، بقدر ما هي حقبة متحرّكة في فضاء استعماريّ واسع لمشروع تغييب وجوديّ وحضاريّ مدجّج بالمعرفة الاستشراقية الضارية.

النكبة هي اسم من أسماء الاستعمار الإحلاليّ، وبالتالي هي حدث بنيويّ أي متأصّل ولامنته، يتجاوز التطهير العرقيّ وإبادة الذاكرة إلى عقليّة الجينوسايد، كما يتجلّى في طروحات نظريّة نقديّة جديدة لمارتين شو وآخرين.

تستند هذه الطروحات إلى تعريف الجينوسايد لرفائيل لِمكين في كتابه (1944، Axis Rule of Occupied Europe): "تدمير النمط القوميّ للمضطَهَد وفرض النمط القوميّ للمضطَهِد على الجماعة التي سُمِح لها بالبقاء، أو على الأرض، بعد ترحيل الجماعة المضطَهَدة واستعمار الأرض من قبل الجماعة المستعمِرَة".

تهميش النكبة من دراسات الجينوسايد، رغم انضوائها تحت هذا التعريف يوفّر دليلاً إضافيّاً على تسييس الأجندة الأكاديميّة الغربية في هذا المجال. وهو تسييس يفسّر أيضاً استبعاد النكبة من دراسات الصدمة في الجامعات الأميركية والأوروبية، كما تشير إليه روزماري صايغ في نقدها للمحورية الغربيّة للمعاناة، كجزء من عدم الاعتراف بالعنف الاستعماري في الماضي والحاضر كمسبب رئيسي للمعاناة في العالم المعاصر.

تعريف النكبة كسياق تاريخيّ ممتدّ من القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، يعني إدراك تمترسِهِ خلف منظومةٍ ثقافيّة وسياسيّة متجذّرة ومتنامية لا تطمئنّ لتفوّقها بل تحصّنه، معرفيّاً وأيديولوجيّاً، بهجومٍ استباقيّ لا يكلّ على كلّ ما يهدّدها أو ينال من قدرتها على الاستفراد بالرواية وبالخطاب.

الحضور المحاصر للنكبة في الأوساط الأكاديميّة المركزيّة هو انعكاس للاستفراد بالوعي والخطاب، على نحوٍ يعيد إنتاج واقع مزمن وتصعيديّ من الظلم و تكريس وتبرئة الذات الغربية من أيّ مسؤوليّة عنه.

ثمّة حاجة استراتيجيّة، والحال هذه، لوضع وتنفيذ أجندة أكاديميّة حول النكبة تواجه هذا الإنكار غير البري،ء وتسائل دوافعه الأيديولوجيّة و تواطؤه، الواعي أو غير الواعي، مع مراكز القرار السياسيّ في العالم. دون أن يعني ذلك بالطبع تجاهل الأصوات الشجاعة المغرّدة خارج السرب الأكاديميّ الغربي.

إلاّ أن هذا التوجّه يجب أن يحتكم أولاً وأخيراً لمعايير بحثيّة رصينة وجريئة، تقاوم غواية الخطاب الضحويّ والصدمويّ وتحتمي بالعقل كإمام. ولعلّ الأرشيف المتراكم من الذكريات والشهادات، وإن لم يزل ناقصاً وفقيراً، بات يوفّر مادّةً لدراسات تتجاوز توثيق الحدث إلى استكناه أعمق لمعانيه المشتقّة من استمراريته وعدم استثنائيته.

ابتداءً من الالتفات إلى تعدّدية تجربة النكبة زمنياً وجغرافياً وإنسانيّاً، التي قد تختفي تفاصيلها في النزعة الغالبة إلى التعاطي معها كحدثٍ واحد وموحّد، وإلى تأميم ذاكرتها الجماعية، أي تجنيدها واحتكارها سياسياً، في إهدارٍ إشكاليّ لفسيفساء هائلة من خصوصيات التجربة ومعايشاتها الإنسانية، وإمكانيّات فهمها، بصرف النظر عن بطولتها أو ضعفها.


(شاعر وباحث سيكولوجي فلسطيني/ لندن)

دلالات
المساهمون