"حضور أسمهان الذي لا يُحتمل"

23 نوفمبر 2015
أسمهان (Getty)
+ الخط -
قليلةٌ هي الأعمال الخاصّة بأسمهان (1915- 1944). السينما تقاربها بخجل وهدوء، عبر الوثائقيّ تحديداً، لكن بشكل موارب غالباً، كما في "أسمهان، ديفا الشرق" (2013)، للإيطالي سيلفانو كاستانو واللبنانية إيمان حميدان، و"حضور أسمهان الذي لا يُحتمل" (2015) للفلسطينية عزة الحسن. التلفزيون ينجر إلى رواية العائلة؛ "أسمهان" لممدوح الأطرش. الأدب الروائي المتخيّل يبقى بعيداً، بينما السردي السِيَري يقترب؛ "أسمهان تروي قصتها" لمحمد التابعي.

دراسات تبحث في صوتها وأغانيها وصانعي أغانيها والألحان، وأخرى لا تتغاضى عن سلوكها و"ارتباطاتها" السياسية والاستخباراتية؛ "أسمهان ضحية الاستخبارات" لسعيد الجزائري. بينما يحتل "أسرار أسمهان: المرأة، الحرب والغناء" لشريفة زهور، مكانة ثقافية مختلفة، لاجتماع التحليل بوقائع مستلّة من ذاكرة فردية أو جماعية، وبالإنساني المفتوح على بنى اجتماعية وسياسية ودينية متنوّعة.

سحرٌ وجاذبية

لغاية اليوم، هناك من لا يزال وفيّاً لها ولنتاجاتها الغنائية ولفيلميها: "انتصار الشباب" لأحمد بدرخان و"غرام وانتقام" ليوسف وهبي. اهتمام بفصول حياتها اليومية والفنية جزء من وعي معرفي خاص وعام. تمتّعٌ ببهاء عينيها، كما بجمال محيّاها وروعة حضورها، فعل ذاتي محض، وانفعال يعثر على حيّز كبير له عند كثيرين. هذه أمور فاعلة لدى من يعتبرها مساحة آمنة لعيش وتفكير. المقارنة الشعبية بينها وبين أم كلثوم حاضرة في خطاب يومي قديم ومستمر. "اتّهام" الثانية بـ"قتل" الأولى محور سجالات تؤدي، غالباً، إلى ما يُشبه صراعات تنشب بين الطرفين، على مستويي الاتهام والغناء معاً. في "ديفا الشرق" مثلاً، هناك من يحلّل صوت أسمهان، واجداً فيه قوة أهم ونبرة أعمق وحسًّا أجمل ممّا لدى أم كلثوم.

اقرأ أيضًا: أفلام المحرقة، جمال الصورة وخبث الرسائل

لأسمهان سحر وجاذبية، يصطدمان دائماً برفض صارم من "العائلة" إزاء كلّ مشروع فني يريدها نواته الدرامية. حكاية السينمائي السوري الراحل عمر أميرالاي مع أسمهان معروفة؛ المشروع مكتوبٌ، لكن أسباباً عديدة حالت دون تحقيقه.

من يذهب إليها يحتال، فنياً وثقافياً وجمالياً، على المادة الجوهرية، ليقول ما يريد، فالتوجه إلى العائلة دونه خطورة التشدّد بالرفض. لكن كاميليا، ابنة أسمهان الوحيدة من زوجها الأمير حسن الأطرش، تظهر في "ديفا الشرق" لثوان، إذ لديها حجة الانصراف المطلق عن أي كلام حول والدتها: "لم أعرفها جيّداً. صِغَر سنّي يحول دون إمكانية تذكّرها، وبالتالي لا ذكريات شخصية لي معها". قريبة لأسمهان تُدعى ديانا الأطرش، تظهر في "حضور أسمهان الذي لا يُحتمل" للحسن: مرتدية زياً خاصّاً بقيادة الدراجات النارية. تذهب ديانا إلى "كازينو أوتيل صوفر" المهجور، لتروي تشابهاً بينها وبين قريبتها على مستوى السلوك الحياتي، الذي يُفترض به أن يكون مضبوطاً وفقاً لمفهوم العائلة الملتزمة تقاليد صارمة، فإذا بديانا تعيد صوغ مشهد أسمهان في انفضاضها على جماعتها.

اقرأ أيضًا: أفلام إيرانية جديدة

تُقدّم الحسن شهادة إنسانية خاصّة بها إزاء أسمهان. الكاميرا معها رسالة موجهة إلى الفنانة، والعدسة محاولة حثيثة لبلوغ شيء من صفاء ذاتي في مقاربة الحكايات الكثيرة والمتشعبة. البناء الفيلمي مرتكز على تبسيط تقني ـ فني متمثل بلقاءات مع أناسٍ يروون فصولاً من سيرة أسمهان، هي بمعظمها فصول متداولة ومكررة. البناء عادي، والقصص معروفة، والجانب الذاتي يحدّد بنية العمل ومساره. جانب ينفتح على راهن مصر زمن "ثورة 25 يناير" وما بعدها، إذ تعكس الحسن واقعاً ينبثق من الثورة نفسها: تحطيم المقدّس. مغنيات شابات مولعات بأسمهان يظهرن كأنهن واقفات أمام ذواتهن بعد "الثورة"، متسائلات عن معنى العلاقة بها. لاجئون عرب يناقشون "ليالي الأنس في فيينا" في العاصمة النمساوية، على ضوء "الربيع العربي"، فينتقدها بعضهم لأن لا "أنس" في فيينا لحالته المزرية، بينما يرى بعض آخر أن أسمهان تغني للجمال والطمأنينة.

ما الجديد؟

شخصيات عديدة تتحدث عنها. موسيقيون وسائرون في درب الغناء يقولون علاقة ذاتية بها، أو معطيات لا جديد كثيراً فيها. بين القاهرة ولبنان والنمسا رحلة يُراد لها أن تكون خارج الجغرافيا لسبر أغوار الروح، لكنها تبقى أسيرة العاديّ، وإن تحاول المخرجة ربط حكاية أسمهان بمتغيّرات حاصلة في العالم العربي. تذهب الحسن برفقة الناقد السينمائي المصري سمير فريد إلى "استديو مصر" حيث صوّر "انتصار الشباب"، فإذا بكلامه مرآة تعكس جمال الماضي مقابل مرارة الراهن. الاستديو مغلق، كأن غلقه ممتد على انغلاق مصر على الخارج.

يقول فريد واقع القاهرة قديماً واستقبالها الجميع، وانفتاحها أمامهم وعليهم. يقول إن أسمهان "تحبّ القاهرة والقاهرة تحبّها". المخرجة المصرية اللبنانية نبيهة لطفي تتأمّل ملامحها: "إنها جميلة، لكنها لم تكن ملكة جمال. شخصيتها تساهم في إعلاء الجمال فيها". تسرد لطفي شيئاً عن تنافس بين أسمهان وتحية كاريوكا من أجل أحمد سالم. تتوجّه الحسن إلى الأولى: "حكايتك مع تحية أخافتني. لماذا الأميرة تخون صديقتها؟ ربما أنتِ لستِ الملاك الذي يعتقده الجميع".

اقرأ أيضًا: هذا الفتى عمر

هذه إحدى أبرز خلاصات رحلة الحسن مع أسمهان. هذا ارتباك إزاءها: "حان الوقت لأعرفكِ أكثر. عليّ العودة إلى العالم الذي جئتِ منه". فهل تتبيّن الحسن ما تريده؟ هل تبلغه؟ أصحيح أن أسمهان لن تكون أميرة بل خائنة؟ ألم يكن ارتباكها وقلقها "جوهريّاً" فيها؟ ثم، أليس الفيلم محاولة إنسانية للعثور على أجوبة معلّقة؟

الشخصيّ البحت في مقابل الفنيّ المفتوح على كلمة ولحن ونبرة وصورة. حوار تلفزيوني قديم ونادر للمخرج والممثل المصري يوسف وهبي يروي فيه أن أسمهان تظهر أمامه بالأبيض، عشية إطلاق العرض الأول لـ"غرام وانتقام"، أي الليلة التي تموت فيها بحادث سير. الناقد اللبناني الياس سحاب يحلّل بعض أغانيها، ومنها "إيمتى حَتعرف"، قائلاً إنها أكثر الأغاني تعبيراً عنها: "صدق وعمق وشفافية التعبير" يقول. سائق سيارة أجرة مصري مهاجر إلى فيينا يخشى النطق بكلمة "كأس" في أغنية "ليالي الأنس". هذه صُور عن تناقض أزمنة، وانهياراتها. هذه مفاتيح لولوج عالم يبدو مُشرّعاً على صداماته القاتلة، وتبدّلاته الأقسى.
السياق العام للفيلم عادي. بعض لحظاته تمنح المشاهد مداخل إلى مقارنة مبسّطة بين أزمنة وحالات وانفعالات. مع هذا، تبقى الخلاصة متعلّقة بأسمهان نفسها: "محيطها لم يحتمل جمالها". تقول إحدى الشخصيات. "بغض النظر كيف ماتت، المهم أنها عاشت"، تقول أخرى.
"حضور أسمهان الذي لا يُحتمل"، تقول عزة الحسن.

(كاتب لبناني)
المساهمون