عن القدس بعد تقادم الزمان

07 ديسمبر 2015
لوحة للفنان الفرنسي إدغار دوغا (Getty)
+ الخط -
يؤكد الشاعر سيف الرحبي في الحوار المنشور معه هنا، أنه ماض قدمًا نحو استنطاق الماضي الذي يمتح من طفولته السحيقة في سلطنة عُمان، ضمن كتابة هي نوع من استعادة سيرة المكان والطفولة. وفي إطار ذلك ينوّه بالحاجة إلى التركيز على شحذ الذاكرة بعد تقادم الزمان والأحداث والمآسي. 

وبما أن القدس عادت لتتصدّر المشهد الفلسطيني، بعد تقادم الزمان والأحداث، سأسير في عقبيه نحو استنطاق الماضي من خلال استعادة أحد جوانب سيرة المكان:

إذا عدنا في الزمان إلى بداية القرن العشرين الفائت، تظهر لنا القدس كمدينة حتى العقد الثالث منه، في إطار مُغاير تمامًا لذلك الذي تظهر لنا فيه اليوم. تظهر لنا مدينة يطغى عليها حراك اجتماعي وتعددية ثقافية وتباينات طائفية، مدينة تعيش، كما يؤكد ذوو الاختصاص، نهاية عصر ما قبل الحداثة مع ظهور بعض العلائم التي تشير إلى بداية حبوها صوب الحداثة... مدينة حيّة، متصارعة، تتمايز بأحيائها وحاراتها وطوائفها، وتجمع بين سكانها في النهاية "انتماءات مشتركة إلى المدينة الدنيوية"، وفقًا لتعريفات عالم الاجتماع الفلسطيني د. سليم تماري.

اقرأ أيضًا: سليم تماري، سير المغمورين تكشف النسيج الاجتماعي لفلسطين

أمّا المصير اللاحق للقدس فسُرعان ما قسمها إلى "مدينتين" شرقية وغربية، عربية ويهودية، منقسمة قوميًا وموحدة عسكريًا.

وطغت على المدينة آنذاك ثقافة كوزموبوليتانية، ومثل هذه الثقافة نجدها، لا على سبيل الحصر، في العالم الفكري للكاتب المقدسي خليل السكاكيني. كما نجدها في الكثير من الكتابات لمؤلفين عرب ويهود وإنجليز عايشوا حقبة الانتداب البريطاني أو استرجعوا طفولتهم فيها. هذه الأمور كلها شلّها "الجدل القومي"- الصهيوني تحديدًا - حول الهوية الدينية للمدينة، وحول جغرافيتها المقدسة.

والتعبير الرائج اليوم حول "القدس الغربية" و"القدس الشرقية" إشكالي للغاية، إذ إنه يشير- حين يكون بالذات مخصوصًا بـ "القدس الغربية"- إلى حيّز جغرافي تكوّن فقط كنتيجة لرسم "خطوط الهدنة" سنة 1949. أما الأحياء العربية، التي أنشئت غربي المدينة في العشرينيات والثلاثينيات من ذلك القرن، فإنها كما هي الحال بالنسبة إلى امتدادات قرى "عين كارم" و"لفتا" و"المالحة"، لم تتبلور كجسم اجتماعي أو إداري مستقل، خارج علاقتها الإدارية بالبناء الحضري للمدينة ككل، وخارج شبكة العلاقات الاقتصادية التي ربطت القدس بسائر مدن فلسطين.

اقرأ أيضًا: جائزة القدس للأدب، شرك "فن القص"

وهنا ينبغي أن نلفت إلى أنه قبل تكوين "القدس الغربية"، عملت المؤسسات الصهيونية على تقطيع أوصال المدينة:
أولاً: كما حدث في مدن وقرى الساحل الفلسطيني في سنة 1948، قامت القوات اليهودية بإجلاء كل السكان العرب عن الضواحي الغربية والقرى وطردتهم شرقًا. وفي الجانب الآخر، وضمن عملية اقتصرت على بضع مئات من السكان اليهود، تم إجلاؤهم إلى الجانب الإسرائيلي. بعد ذلك أصبحت "خطوط الهدنة"، وللمرة الأولى في التاريخ الحديث لمدينة القدس، هي الحدود الفاصلة بين التجمعات الإثنية، حدود العرب واليهود.

ثانياً : في صلب هذا الصراع الجغرافي على القدس، كانت تقف دائمًا قضية تنظيم الأراضي وترسيم الحدود البلدية في فترة الانتداب البريطاني. وبينما شكّل الفلسطينيون العرب، من مسلمين ومسيحيين، أغلبية في لواء القدس كوحدة تشمل القرى والبلدات المحيطة بالمدينة، وبهذه الطريقة أصبح اليهود أغلبية السكان داخل الحدود البلدية.

وقد راجع مايكل دمبر، أحد المؤرخين البريطانيين،الأدبيات الديموغرافية لفترة الانتداب، وتوصل إلى تفسيرين لهذا التمايز في نسب السكان: الأول؛ أن الإحصاءات الانتدابية اعتادت احتساب المهاجرين اليهود، الذين وصلوا إلى القدس قبل سنة 1946 ثم انتقلوا بعدها إلى تل أبيب ومناطق أخرى، كأنهم باقون في القدس. والتفسير الثاني، أن هذه الإحصاءات استثنت من سكان القدس (داخل الحدود البلدية) سكان الأرياف المحيطة بالقدس، الذين يعملون في المدينة بينما احتسبت، في الوقت ذاته، السكان اليهود الذين يسكنون خارج الحدود البلدية على أنهم من سكان المدينة.

وهي عملية التفافية مشوهّة يسميها دمبر "الإحصاء الديموغرافي الهيكلي"!
غير أن عملية الدمج والاستثناء الانتقائي للأحياء، لم يكونا العامل الوحيد الحاسم في التمييز بين تنظيم الحارات اليهودية والعربية في فترة الانتداب. والعنصر الأهم نجده في طريقة تنظيم الأحياء. فمؤسسات الييشوف اليهودي (المجتمع اليهودي في فلسطين في إبان فترة الانتداب) كانت حريصة على تنظيم الأحياء اليهودية الجديدة داخل الحدود البلدية في المنطقة الغربية والشمالية الغربية للمدينة. وكانت تخطط لهذه الأحياء مسبقًا عن طريق مخططات هيكلية مدروسة قبل تطبيقها، وهذا في مقابل أنماط البناء المقام فقط بمبادرات فردية وعائلية في الأحياء العربية الحديثة.
المساهمون