خلافاً لأي انطباع يمكن أن تثيره لوحات رسمها فنانون أرمن، سواء بأسلوب التجريد التعبيري، أو أسلوب المشاهد البحرية الرومانسية، بأنها محاكاة لأساليب غربية شهيرة، مثل تجريدية جاكسون بولوك الأميركي أو المشاهد البحرية الرومانسية للإنكليزي جوزيف تيرنر، يظهر أي استقراء تاريخي عابر أن هذين الأسلوبين وُلدا في الأصل على يد فنانين أرمن من أمثال آرشل غوركي (1904 - 1948) بالنسبة للتجريد التعبيري، وإيفان إيفازوفسكي (1817 - 1900) بالنسبة للمشاهد البحرية التي برع بها تيرنر؛ أي أن للشرق نفوذه هنا أيضاً مثلما كان له نفوذه الشهير من خلال الفن الإسلامي الذي أشاع في الفن الأوروبي قيماً تعبيرية جديدة تناولت الأشكال والمضامين، منذ أن تعرفت إليها الأوساط الفنية الأوروبية مع مطلع القرن العشرين.
كانت مناسبة هذا الانطباع واكتشاف ما يخالفه زيارة معرض "الفن التشكيلي الأرمني"، الذي أشرف على تنظيمه، في "قاعة أحمد العدواني" في الكويت هذا الشهر، "المجلس الوطني للفنون والآداب" و"صالة آريم للفنون" والسفارة الأرمنية في الكويت. تضمن هذا المعرض الأول من نوعه هنا قرابة ستين لوحة لعدد من أشهر الفنانين الأرمن المعاصرين من مختلف الاتجاهات الفنية.
واعتبر المنظمون، في تقديمهم المختصر لهذه الأعمال، أن المعرض أشبه بمد جسر ثقافي بين الكويت وأرمينيا، ومناسبة لاكتشاف موروثات الفن الأرمني العريق والثري بألوانه، كما جسدها فكر وإبداع هذه المجموعة المعاصرة من الفنانين. والملحوظ أن هذا المعرض جاء ممثلاً لغالبية الأساليب والتيارات الراهنة في الفن الأرمني المعاصر؛ التشخيصية والسريالية والتجريدية والانطباعية.. وغير ذلك من أساليب النحت الدقيق والمنمنمات، مثل النحت على الخشب أو الأحجار الكريمة البالغة الصغر التي لا تُرى بالعين المجردة وتحتاج إلى مجهر وأداة كفيلة بعرضها مكبرة على شاشة لتبدو للعيان بكامل تفاصيلها المدهشة. ومن هذه الأعمال المعروضة للنحات رفيك باداليان منحوتة بالغة الصغر من الأحجار الكريمة لأبراج الكويت.
وشكلت أعمال الفنان فاهان روميليان مصدر الانطباع الأول عن التجريد التعبيري، في لوحات حملت عناوين "الانفجار الكبير" و"عصير برتقال" و"انقطاع"، ولكن ما صحح هذا الانطباع الخطأ لاحقاً هو معرفة أن الفنان الأرمني آرشل غوركي هو مؤسّس هذا الاتجاه في الولايات المتحدة الأميركية، ومنه انتقل إلى ما شاع الآن تحت هذه التسمية في الفن المعاصر.
وجاءت بعد ذلك المقارنة بين لوحة "روما" الشهيرة لـ جوزيف تيرنر ولوحة مدينة "يريفان" لـ إيفازوفسكي الذي يرتبط اسمه بلوحات المشاهد البحرية، لتؤكد تأثير هذا الأخير على الفنان الإنكليزي ومشاهده البحرية.
بالطبع، هناك مؤثرات قادمة من الاتجاه الآخر، أي من الغرب. فنجد الفنان روبن جريجوريان في لوحاته "ضيف من البعيد" و"أقدام في الغابة" و"علاقات" يذكّر بالبلجيكي رينيه ماغريت الأشهر بين السرياليين، كما يذكر الفنان آرام هاكوبيان بالروسي كاندينسكي، وخاصة في وقفته على أعتاب الفن التجريدي الذي التقطه من فنون الخط الشرقية. ولكن هذه الانطباعات الأولى لا تعني أن الفن المعاصر الأرمني هو مجرد تقاطع مؤثرات من وإلى، فهناك ملامح شرقية أرمنية خالصة في هذا المعرض، بل وأساليب تطور ما عرف حتى الآن في تاريخ الفن المعاصر، وخاصة ما عرف باسم الموضوعية الجديدة أو الأخيولية بين الحربين.
مثال ذلك أعمال الفنانين روميو ميلكيان وتغران بارخانجيان. وما عرف باسم المدرسة الانطباعية وتطويرها في أعمال الفنان مارات مارجاريان التي توحي بانطباعية منضبطة تختلف عن الانطباعية الأوروبية، في لوحة "أزهار شجرة الكرز" أو في "الشجرة السحرية" أو "الشتاء الأثيري"، والتكعيبية في أعمال الفنان روبن آبوفيان بشخوصه الشبيهة بالدمى الملونة في لوحات " نافذة" و"غزل" و"المهرج النائم" (الصورة).
وهناك بصمة شخصية فريدة لكل فنان من المشاركين تتمثل في تقانات وأفكار فردية محددة الملامح، لا تعني غياب الملامح الشاملة لموضوعاتهم وشخصياتهم التي تتخطى الحدود، وتتغلب على الفواصل، والتي هي التعبير عن قوة الفن، وقدرته على التقريب بين البشر، ومحو الفجوات التي تفصل بعضهم عن بعض، وتبني جسوراً بدلاً منها.
الأكثر أهمية من كل هذا، أو بالإضافة إليه، أن هذا التركيب من عدة مؤثرات وبروز شخصية أرمنية مميزة، هو حصيلة ثقافة ذات مزيج بالغ الثراء من ألوان ونكهات أرمنية أصيلة أضيفت إليها مؤثرات خارجية، ثقافة تميزت، معماراً وأشغالاً فنية ومسرحاً وأدباً، بتاريخ وأسلوب حياة وطموحات وجماليات أرمينيا الفريدة من عدة جوانب، وخاصة في جانب تأثير الإمبراطوريات الوثنية التي نشأت على أرضها منذ أزمان سحيقة قبل العصر المسيحي، وتاريخ أرمينيا الطويل أيضاً كأمة مسيحية (كانت أول أمة تعتنق المسيحية في حوالي عام 301 ميلادية) وأمة امتلكت أبجديتها الفريدة في حوالي عام 405 ميلادية، مما ساعد على تعزيز أدبها وهويتها المشتركة.
ولأن أرمينيا تقع عند مفترق طرق بين الشرق والغرب، كانت ذات موقع استراتيجي منذ زمن طويل، ومكاناً التقت فيه إمبراطوريات كبرى، فقد مر عبر أراضيها الرومان والإيرانيون والبيزنطيون والعرب والأتراك والمغول، بعضم دمر أشياء وبعضهم أضاف ما أضاف من مؤثرات، كما جلبت التجارة لأرمينيا أفكاراً جديدة وتقانات جرى استخدامها وتطويرها في صياغة ما هو جديد ومختلف.
وبسبب هذه المؤثرات المتعددة نجد في الفن الأرمني عناصر يشترك فيها مع الثقافات المجاورة، وعناصر تماثل ما لدى هذه الثقافات. وبسبب اللغة التي استقلت بها مبكراً عن العالم اللاتيني، وخروجها المبكر من العصر الوثني إلى العصر المسيحي، اكتسبت أرمينيا عنصرين موحدين، وامتلكت فنونها عناصر أصيلة وجدناها تنعكس ببساطة وعفوية في بعض أعمال الفنانين المعاصرين الحاضرة في هذا المعرض.
وبالطبع، وبسبب التركيز على الفن المعاصر، لم نجد أعمالاً تجسد فن الأيقونات الذي تميزت به أرمينيا، ولا وجدنا عرضاً لرمزها القومي الشهير الذي لا مثيل له في أي مكان في العالم، أي الصلبان الحجرية، الخاتشكار، وهو اسم مكون من كلمتين هما "خاتش" أي صليب، و "كار" أي حجر، وكأن الفنانين المعاصرين استبدلوا الأصالة كمفهوم عام يدل عليهم وعلى بلدهم بهذا الرمز المنفرد أو ذاك.