بحثاً عن اللغة الوسطى

30 يوليو 2015
حروفية لـ إل سيد (تونس)
+ الخط -


تُدهش المتابعَ لوسائل الإعلام ضخامةُ المنتوج اللغوي المعاصر. وما يُدهشه أكثر هو الاستخدام المُفرط فيها للدوارج المَحليَّة واللهجات، مع أنَّ الهدف المُعلن لهذه القنوات والصحف هو الوصول إلى أعْرض جمهورٍ ممكنٍ، والذي يحتاج بِحكم طبيعته المتنوّعة إلى قدر مُشترك من التعابير السهلة.

إنَّ هذه الاستعمالات المَحكيَّة والعبارات الدارجة هي جُزء لا يَتجزَّأ من التراث الشعبي-القُطْري، ومن ذاكرة كلِّ شَعبٍ عربي، وفيها تختزن المجتمعات العربية تَجاربَها التاريخية والعلامات الفارقة في صَيرورتها، ورُبَّ مَثَلٍ شعبي يحمل في طيّاته ما لا تحمله مُطوّلات النُّصوص.

وممّا لا شكَّ فيه أنّ الانفتاح الذي يَفرضه التنافس الإعلامي على القنوات المحلية ليسَ المُحدّد الأول لاختيارات سِجلاتها، لأنَّها تعلم أنَّها تتوجَّه أساساً إلى جمهورها الآني-القُطري، فلا تَخضع لضغط الانفتاح المفروض إلا قليلاً.

وأيضاً فإنَّ اللغةَ المحكية هي وسيلة التواصل التلقائي، الذي لا كدَّ في إنتاجه للفكر ولا عَناء، لأنها مرآة الوجدان العَفوية.

ومع هذا كله، تَبدو الحاجة إلى تطوير العربية الوُسْطى وتَعميمها ضَرورة من أشدِّ الضرورات إلحاحاً ومَشروعيةً.

والوُسطى هي سجلٌّ من القَول تَقع تخومهُ بين دوائر الفصيح المُخصّص للخطابات الرسمية، وفضاءات الدارجة المستعمَلة في الحياة اليومية. وهذا السجل جُمَل وعبارات رُفِعَت منها قُيود الإعراب وزالت علاماتُه، وتلاشت عنه أثقال التراكيب، وشاعت فيه المُفردات اليسيرة.

ويكفي للاستدلال على هذا التعريف للوُسطى أن نتأمّلَ مُختلف الصيغ الدَّارجة للتعبير عن فكرة: "جَيِّد". فَأهلُ تونس وجيرانُهم في ليبيا يقولون: "باهي"، وهو اسم فاعلٍ من البَهاء، وأما إخوانهم في الجزائر فَيطلقون كلمة: "مليح"، صفةً من الملاحة، والمَغاربة يصوغون: "مِزيان"، مبالغةً من الزَّيْن. في مِصر يُصغِّرون "كَيِّس"، فَتصيرَ "كويّس"، وأهل الشام يبدلون اللام نوناً في "منيح"، وهو قلب مَعروف (وَرَد في القرآن في كلمة سجِّين وأصلها سجِّيل)، وفي الخليج يستخدمون لفظة: "زين".

الأمثلة على هذا المَنزع بالمئات، أوردتُ أحَدَها تدليلاً على أنَّ الدارجةَ هي قاعدة الوسطى وبَحرُ إمْدادِها، ولَها أن تغتني بَعدها ببعض تراكيب الفُصحى، لتزدادَ ثراءً فَيسهل تعميمها على كل الأقطار العربية.

وما هذا التدليل إلا مُلاحَظةٌ وتَساؤل قد يصيرُ نِداءً إذا توفّرت الظروف الموضوعية، بحثاً عن ترسيخ العربية الوُسطى وإشاعتها في آفاق الثقافة العربية.

ومن لطائف اللغة أنَّ علماءَها يُذَكِّرون: "أوسط الشيء أفضله وخياره والوَسَط هو الحَسن من كل شيءٍ لوقوعه بين طَرَفَيْن"، فَلمَ التفريط في الوَسَط؟ ولم التمسك بالعامي وهو في الطَّرف الأقصى من المَحلية؟

(أستاذ جامعي تونسي، لوران-فرنسا)

المساهمون