العربية في المحكمة الجنائية الدولية

19 يناير 2020
تجهيز لـ وليد رعد، 2019 (جون فان رووي)
+ الخط -

يُشكّل السابع عشر من يوليو/ تمّوز سنة 1998 تاريخاً مهماً في مسار تَرسيم اللسان العربي على الصعيد العالمي؛ ففيه أُقِرَّت الضاد لغةً رسميّة من بين لغاتِ المحكمة الجنائية الدولية، تتويجاً لاعتبارها أحد الألسن الستة المُستخدَمَة في أروقة الأمم المتّحدة، بمختلف هيئاتها.

في هذا اليوم، أصدرت الجنائية الدولية "نظامَها الأساسي"، ومنه نُسخةٌ باللغة العربية. وسنعتمده منطلقاً للتّدليل على العَلْمَنَة الدلالية التي شَهدتها الضّاد وعلى تطوّر نمط إحالاتها، ضمن رؤية زَمنية تنظر إلى هذا النصّ لا كَوثيقة تنتمي إلى حقل القانون الدولي، بل كَمُدَوَّنة لسانيّة مَحضة. علماً أنَّ هذا النظام يتألف من 77 صفحةً و128 مادةً، تُعنى بوظائف المحكمة وآليات عَملها.

جاء في المادة الخمسين من هذا النظام: "تكون اللغات الرسمية للمَحكمة هي الإسبانية والإنكليزية والروسية والصينية والعربية والفرنسية. وتُنشَر باللغات الرسميّة الأحكامُ الصادرة عن المحكمة، وكذلك القراراتُ الأخرى المتعلّقة بحَسم مسائلَ أساسيةٍ معروضة على المحكمة".

وجاء في المادة 128: "يُودَع أصلُ هذا النظام الأساسي، الذي تتساوى في الحُجِّيّة نصوصُهُ الإسبانية والإنكليزية والروسية والصينية والعربية والفرنسية، لدى الأمين العام للأمم المتّحدة". ولئن كانت لغاتُ العمل في المحكمة هي الإنكليزية والفرنسية فَقط، فإنه يجوز التعامل بأية لغة رسمية أخرى، إذا اقتضى الأمر ذلك، حسب البَند الثاني من المادة 50.

تَعني هذه البُنود اعترافَ القُوى العظمى، ولو مُتأخّراً، بتساوي اللغات وشرعيتها في تمثيل مفاهيم القانون الجنائي الدولي والمرافعات التقنية الدقيقة، ذات المنحى العالمي. وتؤكّد فكَّ الارتباط، في المخيَّلة الغربيّة ذات الجذور الاستعمارية، بين الإنشاء والصياغة القانونية بالعربية المعاصرة. وصارت أفعالُ الكلام المتعلّقةُ بالعمل الجنائي وما يَستدعيه من صيغٍ إجرائيّة، تَتِمُّ بمفردات العربية وبتراكيبها ومجازاتها.

وهكذا، تستعيد الضاد مكانتها في مصافّ اللغات العالمية، كما كانت دائماً، حيث تتساوى اللغات بوصفها أداة عملٍ وتمثيل وتفكير، دون ادعاء أفضلية إحداها على غَيرها، ودون مقاربتها ضمنَ رؤية ماضوية تمجيدية أو راهنة تحقيرية، بل باعتبارها نظاماً تواصليّاً، له من الوزن بقدر ما للدول الناطقة به من الثقل الجيو-استراتيجي والأهمية الاقتصادية.

وبما أنّ أجهزة الجنائية الدولية غير منفصلة عن الهياكل القضائيّة الوطنية الخاصة بكل دولة، فإن هذا "النظام الأساسي" سعى إلى خلق لغة جديدة مشتركة محايدة يذوب فيها المحلي ضمن الكوني، والوطني في الدولي. وهو ما نلاحظه في الطبقات الدلالية لكلماتٍ مثل: "قلم المحكمة"، و"المدّعي العام"، و"هيئة القضاء"، و"الاستئناف"... وكلّها تنتمي في ذات الآن إلى الكوني والمحلّي. وقد تكيَّفت العربية مع هذا الازدواج فأدَّت ما يتولّد عنه من المفاهيم.

ولا يخفى أنَّ المحكمة تؤول في أحكامها وتنظيمها إلى مرجعياتٍ مُتنوّعة: إذ تنحدر مبادِئها الأساسية وقواعدها العامة من نصوص القانون الروماني-الجرماني العام، في صيغته الفرنسية، ثم من الأعراف والتشريعات ذات الأصل الأنكلو-سكسوني. وبشجاعتها المألوفة، تولت العربية تَرجَمَة هذه المفردات ناقلةً كل حُمولاتها دون التباسٍ.

ومن جهة ثانية، سَعت الجنائية الدولية، ضمن المحاكمات التي تديرها، إلى المزيد من تدقيق مفاهيم الجرائم الدولية وتحقيق المعاني القانونية الحافة بكل مصطلح مثل: "ضحيّة"، و"شهادة"، و"قاعدة"، و"جريمة"... وهو ما يؤكّد متابعة العربية لمجهودات إنضاج حقل المفاهيم الجنائية الدولية، وربما الإسهام فيه عبر تحرير المفردات واختيارها وتَرجمتها.

وقد انعكس هذا المجهود، مثلاً، في تسمية الجرائم الدولية والتنظير لها، وابتكار دوالَّ جديدة للتفاصيل التي ترتبط بها في المحاكمات الكبرى مثل كلمات: "إبادة جماعيّة"، "جريمة حرب"، "جرائم ضد الإنسانية"، "جرائم الاعتداء"، "تطهير عِرقي"... فرغم عدم نضج هذه المفاهيم، في مُدوّناتها الأصلية، تمكّنت الضاد من تغطيتها جميعاً واستيعاب ما فيها من الفويرقات والحمولات التي تَظهر في خطابات القضاة وهيئات الدفاع والمدعين العامين والـمُسجِّلين... الذين يعملون في المحكمة وهم يأتون من ثقافات ومرجعياتٍ قانونية مختلفة وأحياناً متضاربة.

ذلك أنّ النظام الأساسي والمداولات، ولئن صيغت في لغة كونية، فإنها تَحمل في طياتها آثاراً، ولو بسيطة من التمثّلات والرهانات المحلية، وكلها يُعاد تَدويرها ضمن الصياغة العربية التي تأخذ بعين الاعتبار هذه الثنائية المعجمية. فقد تمكّنت الضاد من الدلالة على المضمون الذهني لهذه المفاهيم. فما يفهم مثلاً من كلمة "جريمة" هو ذات ما تحيل عليه: كلمتا crime وcrim، ولا فَرقَ لدى المرسل أو المتلقّي أو المترجم في استخدام أيٍّ من هذه المقابلات.

هذا وتتّسم الترجمة العربية لهذا النظام الأساسي بالسلاسة، بل إنها تَمتح بعض مفرداتها، وحتى الأساسية منها، من معين الذاكرة مثل كلمات: "اعتراف"، و"دعوى"، و"شهادة"، و"دليل"، و"قرينة"... في استخدام جَسورٍ، لم يتأثّر بما في ذاكرة هذه الكلمات من شُحن تراثية. وهذا ما ينطبق على كلمات: "نِزاع"، و"ميثاق"، و"اتفاق"، و"أعراف"...

ومن جهة أخرى، تؤكّد هذه الوثيقة تخفُّف العربية من أثقال البلاغة المهترئة ورواسب الفكر الغيبي مع توفُّر جُملها وتراكيبها على القدر المطلوب من الغموض، وتعدّدية المعنى المأمول في كل سجل قانوني، كائناً ما كانت اللغة، مثلما نجده في هذه الصيغة: "يجب على المحكمة أن تقتنع بأن المتّهم مذنب دون شك معقول قبل إصدار حكمها بإدانته".

ورغم كل الانتقادات الجادّة التي وُجّهت إلى عمل المحكمة، فقد أهدت العربيةَ فرصةً ثمينة للتعبير عن ذاتها، دون تَشنُّجٍ، بعيداً عن البكائيات والغنائيات ونبرة التمجيد أو الاستنقاص. فقد أثبت النص العربي لنظام روما أنّه لا تكاد تشذُّ فكرة قانونيّة أو مواضعة إجرائية إلّا ولها مفردة تدلّ عليها وتشير إليها بوضوحٍ، بل بالتجريد والشمول اللذيْن تَتَطلبهما محكمة دولية. فقد استطاعت بفضل التوليد والترجمة والنقل استعادة كلّ ما يتعلق بالقانون الجنائي الدولي الحديث، قاطعةً مع المصطلح الفقهي الديني والمصطلح القانوني المحلي. ومن اللافت أن جذر (ش. ر. ع) الذي تولّدت منه العديد من الكلمات القانونية (شرعي، شريعة، تشريع، مشرّع...)، لم يرد في كل هذا النصّ إلا مرّةً واحدة، للدلالة على "التشريع الوطني".

أطاح نَجاح هذه المهمة سلسلةً من المسلّمات والمغالطات التي حالت دون اعتبار لغتنا لساناً قادراً على تأدية مضامين القانون الجنائي الدولي، ومن ذلك القول إنَّ مَفاهيم القانون الجنائي الدولي وحقوق الإنسان تأسّست على أرضية غربية علمانيّة عقلية، ولا يمكن أن تعبّر عنه إلا اللغات الأوروبية التي ظهرت عَبرها نصوص هذه القوانين. وكذلك، القول إنّ الضاد عاجزة عن تمثّل هذه المفاهيم، إلّا إذا لجأت إلى النقل والتعريب، ممّا يقصر دورها على الترجمة الحرفية والاستنساخ، دون أدنى ضمانة لدقّة النص المنقول.

أبانت الضاد عن قدرتها الكاملة على نقل أكثر المفاهيم الجنائية كونيةً وشموليةً، تلك المفاهيم التي يُراد لها أن تتّسم بأعلى قدرٍ من التجريد والانطباق على كل الوضعيات والمراجع، وذلك عبر التخلُّص من الإحالات الوطنية والإشارة إلى نظام قانوني عام يَهُمّ سائر الأمم، ويعنى بالانتهاكات والنزاعات الحاصلة بينها. وتنطبق هذه النزعة الكونية على سائر الهيئات القانونية الأممية الأخرى مثل محكمة العدل الدولية، ونصوص القوانين والأعراف العالمية.

ويظل السؤال قائماً: ألا تؤكّد مثل هذه الوثائق أنّ العربية قطعت شوطاً كبيراً في التحرّر من سلطة المرجع الفقهي الذي شدّ الخطابَ القانوني إليه لقرون عديدة؟ وربما تكون بِداية العَلمنَة القانونية باستثمار هذا السجل الكوني في تغذية الصياغات القانونية القُطرية وتطويرها.

المساهمون