آلان غريش: تصورات عن خطر مُتوهَّم

07 أكتوبر 2016
(من المحاضرة)
+ الخط -

من نقطة إشكالية جرى تبنّيها غربياً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، مفادها أن "معرفة الإسلام تؤدّي إلى معرفة أوروبا"، انطلق الصحافي والكاتب الفرنسي آلان غريش (1948)، في ندوته التي حملت عنوان "الإسلام وكارهوه في الغرب" واستضافها "منتدى الدين والحريات" في مقرّ "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، وسط العاصمة المصرية، الثلاثاء الماضي، باسطاً تساؤلاته واستنتاجاته حول علاقة الغرب بالإسلام، وحال المسلمين في المجتمعات الأوروبية، وخصوصاً فرنسا.

أول ما أشار إليه صاحب "الإسلام، الجمهورية والعالم" تلك الحكاية المتواترة عن ازدياد الطلب الغربي على شراء القرآن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر كمحاولة لفهم نفسيات منفّذي العملية. لكن غريش ألمح إلى لعبة التأويلات في قراءة النص واعتماد تفسير وحيد يكون مسوغاً لردّة الفعل العنيفة، مقابل تنحية تفسيرات أخرى "ستقرأ في القرآن أن من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً، كما أنك ستقرأ في مواضع أخرى آيات تحثّ على قتال غير المسلمين".

وكما لو أنه يوجّه سؤاله إلى الدوائر الغربية، قال غريش "عن أي إسلام نتحدّث هنا؟"، ولم يفته أيضاً الإشارة إلى أن استنبات تأويلات للنص القرآني في بيئته الإسلامية تتفاوت في طبيعة استخدامها وحضورها "سيد قطب تحدّث في زمن الناصرية عن الاشتراكية في الإسلام".

أمام فوضى التأويلات وتشابكاتها العديدة، رجّح غريش أن التفاسير المتطرّفة التي يعتمدها نظامُ ما يُعرف بالدولة الإسلامية تأتّى بسبب عاملين: تغيير معنى الإسلام بداية السبعينيات وتسيّد الرؤية الوهابية المتشدّدة للدين، عبر حاضنتها المملكة العربية السعودية، ثم التدخلات العسكرية الأميركية الغربية في المنطقة.

في هذا السياق، يرى غريش أنه جرى تمهيد العقل الغربي لإذكاء مثل هذا الصراع مع الإسلام والمسلمين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي "الصحف الأميركية أشارت إلى انتهاء الخطر الأحمر (الشيوعية) وبروز الخطر الأخضر (الإسلام)، أو حتى أحاديث هنتنغتون عن حروب الحضارات، لا الأيديولوجيات، في نظريته عن صدام الحضارات".

من نقطة الإذكاء والتمهيد النفسي هذه، خاض غريش، في الجزء الأكبر من محاضرته، في محاولة تفكيك أصول التهديد الإسلامي المفترض عبر النفاذ للعقل الغربي، لكنه أكّد أنه "لا يمكن الحديث عن غرب واحد". ومن هنا، فإنه تناول بالتحديد بلده فرنسا حيث يعيش ويكتب.

يقسّم صاحب "علام يطلق اسم فلسطين" تصوّرات الغرب عن الخطر الإسلامي لخطر خارجي عبر الدول، ثم خطر داخلي مصدره المسلمون أنفسهم في أوروبا. في الأول، يتكئ غريش على إجابة استفهامية طرحها إدوارد سعيد سابقاً قال فيها: "الخطر الشيوعي كانت له دولة هي الاتحاد السوفييتي والصين، والخطر الفاشي والنازي ممثّلاً في إيطاليا وألمانيا بالترتيب، فأي دولة يمكن لها أن تمثّل هذا الخطر الإسلامي؟".

لا يمكن هنا أن تكون الإجابة تأكيداً للدّور المتطرّف للمملكة العربية السعودية، إذ فيما يعتبرها غريش سبباً لتسيد تفسيرات متشدّدة، لا يبدو أن أورويا أو أميركا تعتبرها كذلك. وهنا أيضاً يبرز ذلك التناقض الغربي الذي يلجمه ويسكته البترول السعودي، بحسب ما أشار غريش.

أما فيما يخص الخطر الداخلي المتمثل في مسلمي أوروبا كما تصوّره الدوائر الغربية، فقد أوضح غريش- وعبر التدقيق الإحصائي لنسبة الجاليات المسلمة، والذي لا يخلو من إشارات منه لضآلة حدود التأثير السياسي وانخفاض مستوى الفاعلية الدينية- أن "الجالية المسلمة في فرنسا- وهي أكبر جالية مسلمة في أوروبا- لا تتعدى الـ 8%"، وفي حدود هذه النسبة الضئيلة فإنه تساءل مرة أخرى "من هو المسلم في أوروبا؟!"

الأمر أن النبرة التهكّمية لا تغيب في سؤال غريش. وفي ذلك، فإنه يضرب مثلاً بعملية مدينة نيس في الرابع عشر من يوليو/تموز الماضي، حيث اخترقت شاحنة يقودها مسلم صفوف مواطنين فرنسيين كانوا يحتفلون في الشوارع بذكرى سقوط الباستيل: "الشهادات التي جُمعت عن شخصه تقول إنه كان يشرب الخمر وله علاقات نسائية، والبعض الآخر أشار إلى أن له علاقات برجال آخرين"، ثم يضيف باستنكار: "لا يمكن أن نفهم هذا التصرّف من خلال تصوّرٍ ما عن الإسلام، إذ هنا، وفي أمثلة أخرى، فإن دافع الانتقام لم يكن دينياً أبداً".

يعزو صاحب "الأبواب المائة للشرق الأوسط" هذه الأفعال الانتقامية والإرهابية إلى بروز أزمات اقتصادية واجتماعية تعاني منها فرنسا وشبابها، ما يجعل من تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية حلاً سريعاً وناجزاً لمشاكلهم، كون التنظيم "يقدّم يوتوبياً"، فيما لا يقف غريش عند حدود هذا التفسير النفسي المباشر، والذي سيبدو للبعض غير كاف، بل يضيف إليه تصوّراً أعمق يتعلّق بإحساس النبذ الذي يستشعره المسلمون في أوروبا: "خطاب داعش للشباب المسلم في أوروبا يرتكز على التأكيد على أن الأخيرة ترفض وجودهم ولا تعتبرهم جزءًا منها". يضيف: "للأسف، هذا الأمر صحيح ومطروح بكثرة في فرنسا".

خطاب الكراهية تجاه المسلمين والذي يضطرد في فرنسا، وفي غيرها من بلدان أوروبا، ألمانيا كمثال راهن بعد موجات الهجرات السورية، يلقى رواجه بالاتكاء على إذكاء الشعور القومي والدفاع عن العلمانية، وهنا لا يفوّت صحاب "حوار حول الإسلام" الفرصة لمسألة الدلالات مرة أخرى "عن أي علمانية نتحدث هنا؟".

ليس جديداً القول إن علاقة الدين بالدولة لها طبعاتها المختلفة في كل بلد أوروبي، فبينما الملكة في إنجلترا هي رئيسة الكنيسة، يختلف الأمر في العلمانية الفرنسية، حتى إنه مستحيل الحدوث. من هنا، فإن "العلمانية ليست ذات طبيعة تفسيرية واحدة" على ما يؤكد غريش، لكنه يضيف مع ذلك أن تحويراً جرى في العلمانية الفرنسية لعشر سنوات خلت "لقمع المسلمين خصوصاً".

يرى الكاتب أن العلمانية الفرنسية تواجه مأزقاً يتعلّق باضطهادها الصريح للإسلام "لماذا يعني احترام القيم الفرنسية أن يشعر المسلمون بضغوط اجتماعية كونهم مختلفين قيمياً بحسب توجيهات دينهم"، ويضيف "أريد علمانية قانون عام 1905"

القانون الذي يشير إليه غريش، كما يوضّح، يتعلّق بالتسوية بين الدولة والكنيسة بعد صراعهما الدامي إبان الثورة الفرنسية في نهاية القرن التاسع عشر، إثر مظاهرات الثامن عشر من أغسطس (التاريخ المفترض لميلاد السيدة مريم)، في العام نفسه، والتي خرج فيها مؤمنون داعمون للكنيسة في مواجهة العلمانية الكاسحة للدولة، فأقرّ القضاء بحقّهم في التظاهر، ثم أُقر قانون التسوية لاحقاً لإنهاء العداء المتبادل.

أحد الأمثلة التي ساقها غريش لبسط رأيه تتعلّق بقانون منع الحجاب في المدارس العام 2004. صحيح أن القانون صيغ لمنع أية علامة دينية تدلّ على أتباعها، لكن "القانون فُهم مجتمعياً أنه ضدّ الحجاب حصرًا". ما يُشير إليه الكاتب هنا هو مفاعيل الاجتماع في القانون، وكيف أن الأجواء التي ظهر فيها القانون قادته إلى وجهته كقانون ضدّ الحجاب الإسلامي "لذا فإن أحداً من المجتمع الفرنسي لم يتحدّث عن اضطهاد ضدّ المسيحيات أو اليهوديات".

ما شدّد عليه غريش أكثر من مرّة وختم به محاضرته هو أن مآلات الوجود الإسلامي في أوروبا لا يمكن لها أن تُفهم إلا خارج مساحات الدين وإشكالياته، لأن التوجّه الأوروبي الذي يزداد يمينية مع الوقت يقابله تعميق لأخاديد الانعزال الإسلامي وتأكيد لحالة عدم الانصهار، ومن ثم تتحوّل هذه الأجساد لاحقاً إلى قنابل يتطاير شررها في كل أوروبا، التي بدورها لا تكلّف نفسها عناء البحث عن الأسباب الحقيقية، بل تمدّ يدها إلى أقرب قاموس تستعير منه مفردة "إسلامي" وتلصقه بكل فعل، حتى ولو كان صاحبه لا يعبأ لا بإسلام ولا بمسلمين.


المساهمون