شيفرات سرية

11 أكتوبر 2019
نهاد ويشو/ سورية
+ الخط -

تتسلل الطائفة إلى النقد الأدبي ومراجعات الصحف بين المشتغلين بمراجعات الروايات من السوريين على وجه الخصوص، وصار الصحافي، أو الناقد أحياناً، يصرّح في المقالة بـ"هوية الشخصية" الطائفية أو الدينية أو المذهبية إذا ذُكر في الرواية الانتماء الجغرافي لولادتها أو لعيشها، كأنما تقرّر أن يكون الانتماء الجغرافي لـ الشخصية الروائية مفتاحاً نقدياً جديداً يحدّد هويتها رغماً عن أنفها وأنف كاتبها، وعلى الكاتب أن يكون حذراً من الآن وصاعداً، وقد باتت الجغرافية السورية التي شهدت توزيعاً ما للطوائف فيها، مصيدة يُرغَم على الدخول فيها سواء أراد ذلك أم لم يرد.

على الروائي أن يحذر من تسمية المكان الذي تنتمي له شخصياته الروائية، إذ لم يعد النقاد أو الصحافيون يفرقون بين الانتماء الجغرافي بحكم الولادة فقط، وبين الانتماءات الفكرية والسياسية للشخصيات الروائية، وهكذا فقد صارت الشخصيات تُرغَم على أن تكون طائفية، حتى لو كانت انتماءاتها الفكرية لا طائفية، إذ ما أن يصرّح في المقالة بالانتماء الجغرافي للشخصية الروائية، حتى يكون قد أرسل للقارئ شيفرة سرية تقول: "لا تخدعك أفكار هذه الشخصية، فالجغرافيا تكشف الحقيقة التي لا مناص من استحقاقاتها".

ومن الذرائع التي بدأت تُطبَخ بواسطتها هذه الآراء، هي أن هذا هو الواقع، وتلك هي الانتماءات الحقيقية للبشر الذين يعيشون في هذا البلد. كأنما لم تعد تكفينا تلك الانقسامات التي غذّت سنوات من الحرب السورية في حقل السياسة، كي يستسلم النقد الأدبي ويشارك في تلقيمها المزيد من الحطب.

الخطير في الأمر ليس التسمية، بل اعتبار المولد أو مصادفات الولادة البيولوجية، أو موقعها الجغرافي الاعتباطي، هوية يعترف بها النقد الأدبي، وتعرّف بها الشخصية الروائية ـ وربما الإيحاء بأن هذه الهوية تساوي وعياً وجودياً للشخصية أو للروائي؛ إذ سوف تكون للشخصية هنا، طبيعة نمطية واحدة، هي الطائفية.

المرجّح حتى الآن أنه مجرّد انزلاق فكري يعكس حالة تخبّط الناقد أو الصحافي، وارتباكه، وعجزه عن فهم الحقيقة، معتقداً أن العابر والمؤقت الذي كان يولّد الحرب، هو الجوهري والدائم في حياة الناس، وهذا ليس صحيحاً البتة، فقد كان واحداً من نضالات السوريين كافة في العقود الماضية البحث عن الهوية الجامعة، لا النبش في الهويات الجزئية.

تُلغي مثل هذه الممارسات المواطنة من قاموس النقد، أي تلغي الهوية الوطنية أو القومية، والأهم من هذا فإنها تلغي الهوية الإنسانية العامة التي تجمع البشر أوّلاً. فالحب والكراهية والنزاهة والإخلاص والصداقة لا دين ولا طائفة لها، والحوار والديمقراطية والتعددية السياسية تستهدف إرساء المواطنة، لا الرعية.

وإذا كانت الحرب قد زعزعت تلك القيم، فإنها لم تستطع أن تمس طبيعتها الخالدة. وما يحدث في هذا الصعيد إنما هو أحد تجلّيات الهزيمة التي أصابتنا جميعاً في السنوات الثماني الماضية، لا طريقة التفاعل مع الوقائع كما يدعي بعض المتورطين في هذا السياق، إذ بدل أن يكون النقد فاعلية خلّاقة، بات استجابة باهتة وسلبية لواقع رديء.

المساهمون