لم نكن أبداً أطفالاً: القاهرة قاهرة ناسها

08 مايو 2016
(مشهد من الفيلم)
+ الخط -

في فيلمه الوثائقي الطويل "لم نكن أبداً أطفالاً"، يحاول المخرج المصري محمود سليمان رصد التغيّرات في حياة الأسرة المصرية منذ منتصف التسعينيات وحتى 2015، من خلال قصّة أمّ تحاول رعاية أبنائها الثلاثة بعد انفصالها عن أبيهم.

بمرور الوقت، تتغيّر الظروف حول الأسرة تدريجياً على كل المستويات، تُصبح الأم، المرأة التي كانت قادرة على حمل "عُدة" سنّ السكاكين على ظهرها، عاجزةً بسبب المرض. أمّا الأطفال الذين أصبحوا شباباً، فيعيشون حالة من الإحباط والرغبة في تدمير كل شيء.

تُحسَب للمخرج قدرته الكبيرة على الصبر على أبطاله، وجعلهم يصارحون الكاميرا، ويتحدّثون كما لو أنهم يمارسون حياتهم الطبيعية، منتقياً الأماكن التي يعيشون فيها ويفترشونها بحسب تطوّر واقعهم، لنرى العائلة، والتي هجرها أب غير مسؤول تكبر وتتشتّت.

يستمر المخرج في ملاحقة شخصياته عبر أسئلة دقيقة، مباشرة وغير مباشرة، لتُفصح لنا عن مقدار المرارة التي تعيشها، ولنرى كيف يترك الشارعُ وأحواله الأثر القاتل على النفس البشرية، بدءاً من الجسد وتحوّلاته، وصولاً إلى التحوّل إلى المثلية في حكاية الأخ الأصغر، وانتهاءً بتزويج الفتاة الصغيرة لأول عريس يطلبها، في ما يبدو استنساخاً لتجربة الأم.

ينتهج الفيلم أسلوب سينما وثائقية صبورة ومتأنّية في اكتمال رواية القصة التي تصدّت لها، سينما قادرة على تحمّل أعباء العمل في الشارع في بلد يعاني من وضع أمني صعب، لمدّة تفوق خمسة أعوام، حتى أصبح أفراد العائلة، أبطال العمل، يتصرّفون كما لو أنهم لا يتحدّثون إلى كاميرا، إنما يروون قصصهم للعالم.

كان المخرج، قد أنتح عملاً قصيراً عن العائلة نفسها في فترة التسعينيات، لكنه عاد إليها ليرصد التغيّرات التي وقعت لها، بوصفها عائلة تؤرّخ لحال الكثير من الأسر المصرية، مقدّماً مزيجاً من الاجتماعي والسياسي الذي أدى إلى مصائر الأفراد.

خيط التشويق لاحقنا منذ البداية وحتى النهاية، تلك النهاية التي كانت بمثابة قطع للأنفاس، فماذا سيحل للفتاة الصغيرة (15 عاماً) التي تزوّجت من طفل من نفس جيلها، وماذا سيحلّ بالطفل الآخر الذي يبدو أنه أخذ طريقاً خاصاً به مع أصحاب لا يوافق المجتمع على طريقتهم في الحياة؟ وماذا سيحلّ بالأخ الأكبر الذي يعمل في ثلاثة مجالات، وبالكاد تتوفّر له القدرة على الزواج وتحقيق بقية أحلامه؟

يدور نقاش طويل في الفيلم عن جدوى هذه الأفلام وطبيعة الصور التي تنقلها عن مصر، حيث يظهر شخص يحاول أن يطرد طاقم العمل ويمنعه من تصوير المرأة التي تبيع الخضار على "ناصية" أحد الشوارع.

يعتبر الرجل أن هذا تشويه لصورة مصر، ويقدّم مقاربته الخاصة، والتي مفادها أنه لو كان العمل سيُعرض في مصر فلا بأس من ذلك، أمّا أن يُعرض على "الأجانب" ففيه تشويه لصورة البلد.

تردّ المرأة بعفوية مطلقة، وتقول له: "لو كان هذا العمل سيؤثّر وسيغيّر، فلماذا تقف ضدّ نقل الواقع"، وهو ما يرفضه الرجل العجوز، لتقول المرأة جملتها التي تُخرس الجميع: "ده بلد مفيش فيه عدل ربنا".

القضية الأخرى التي تناولها الفيلم، تتعلّق بالابن الأصغر، والذي أصبح يعمل في محل للكشري ونتعرّف على شخصيته ونفهم من المشاهد أنه مثلي، من دون أن يتعرّض المخرج أو يتناول الأمر.

لكن العمل يكتسب جرأة مضاعفة حيث يتحدّث المخرج عن الأمر مع الأخ الأكبر الذي يؤكّد معرفته بميول أخيه، بينما تنكر الأم وترفض بقوة وتنفي عن ابنها هذه "التهمة".

ويتقدّم المخرج خطوة أيضاً في طرح السؤال على الشاب الذي يهرب من الكاميرا عاتباً على المخرج ذلك، فينسحب من المشهد، كما نكتشف لاحقاً أنه انسحب من العائلة واختفى.

يختم المخرج فيلمه، والذي أُنتج بالشراكة بين مؤّسسات من مصر والإمارات العربية المتّحدة وقطر ولبنان، من خلال مكالمة هاتفية؛ حيث الابن الأكبر للعائلة يتحدّث مع المخرج، وفي الخلفية شاشة سوداء، يخبره عن أحواله المتعثّرة وأن الحياة أصبحت لا تُطاق، ويتابع قائلاً: "بطّلت تفرق، إن شاء الله أصير داعش واقتُل الناس".

عند تلك النقطة، يختار المخرج أن يصل فيلمه إلى نهايته الثانية، لتتفجّر الأسئلة حول ماذا يمكن للفيلم الوثائقي أن يفعل سوى أن يكشف الواقع ويعالجه فنياً، ويبحث في أسباب العنف، ويعلّق الجرس في رقاب الجميع.

أي مصائر نقلتها الكاميرا الحذقة، وأي وجع أدخله المخرج وكاتب السيناريو والمصوّر في آن؟ إنه وجع طبقة كاملة، بل قطاع عريض من الشعوب العربية، تلك الشعوب التي حلمت بالثورات والتغيير، لكن ما لبثت أن انهدمت أحلامها جميعاً.

ليس هذا الفيلم الأول لـ محمود سليمان، والذي سبق أن كتب وأخرج وأنتج العديد من الأفلام القصيرة وغير الروائية، وشارك بها في مهرجانات عدة، وحصد أكثر من 27 جائزة، ومن أبرز أفلامه تلك "يعيشون بيننا" (2004).

المساهمون