المتفرّج

09 يناير 2020
حامد ندا/ مصر
+ الخط -

خانقة جدّاً هذه الحياة مع ما يحيطه من أكياس قمامة. الدقائق التي أتأمّله خارج الشبّاك تجعلني أدرك أن له مملكة وخدماً وهميّين، قد يأمرهم ببناء بيت من بلاستيك القمامة. صباحاً يلملم النفايات من الشارع قبل أن تكنسه ريح مثقلة بالبرد، جارّاً وراءه برميلاً مقصوصاً من نصفه يرمي إليه ما لا يمكن استخدامه من هذه النفايات، وبرميلاً آخر لما يمكن استخدامه.

تلتصق وجنتاه بوجهه النحيل ليترسم شكلُ عظم صدغيه. ثقل ملابسه العديدة المتدلّية تجعله أشبه بمومياء تلتفّ بجلد أفاعٍ تتدلّى على جنبيه، وتكاد تخنقه أكثر ممّا تدفئه. تتراءى لي نظرات الناس الذين يمرّون من جانبه، فزعة من حياته المخلوطة بالطين. مجاري المياه الطافحة مع السيول كوّنت على أطراف قدميه ملتقى لخطوط التشقّقات الرفيعة البنية القصيرة، والغبار الذي تكثّف على جلده، فأصبح رمادياً كأنه جذع شجرة عتيقة يتوسّط لوحة فنية لمنظر طبيعيٍ شاسع، تؤطّرها حصى الشارع.

أما ليلاً، فلا تعود أي من لامحه تظهر تحت ضوء إنارة الشارع الباهتة. لكن ها هو مجدّداً، أعرفه من موعد عودته للظهور في الإطار ذاته، يتناول أكياساً سوداء تضيء مع رميها من جانب إلى آخر، ساحباً عجل سيارة، قبل أن يبدأ بدحرجته، في الليل. أنا في المبنى وهو بين القمامة.

كم أرغب في مناداته: "يا مجنون!” أن أسخر منه، وأركله في بطنه، وأبكي على رصيف الشارع. هل سأكون يوماً مثله؟ إنه يُشبهني بلملمة الأشياء ومعانيها، وأضع ما لم يصلح فيها كالأشلاء في برميل، وما صلح منها في برميل آخر.

يدفع إطار السيارة أمامه. يدحرجه بهدوء. يتحرّك بضع سنتيمترات. يدور حول نفسه، ثم يركل البرميل. لقد قطع تقريباً ربع الشارع.

أم هل أناديه على فنجان قهوة؟ أتخيّل، بيننا مزهرية بيضاء، أننا نطرح أسئلة على شاكلة "إلى أين؟ من أين؟"، أتخيله فيلسوفاً تمرّ من خلاله الرياح.

أطفئ الضوء، أغلق الباب خلفي، أدخل المصعد، أصابعي ترتجف وأنا أضغط الزر الذي يوصلني إلى الطابق الأرضي. لقد وصل هو إلى منتصف الطريق مع عجله. أتبعه لعلّي أتّخذ قراراً بحديثٍ حقيقي معه. يدخل أحد الأبنية. أتبعه. ثلاث مئة وستّون درجة أستكشف المكان حولي. أبحث عن رقعة أختبئ فيها، خلف السور، أو تلّة الرمل، أو وراء خلّاط الإسمنت. جيّد. يحمل هو عجل السيارة، ويسند به سطح بيت الزينكو المُعَد لتمديد الكهرباء.

يتدلّى شخص آخر من السور. إنها امرأة. يدخلان معاً إلى المبنى الذي لا بلاط فوق أرضيته، ولا جدران تفصله إلى غرف. لا شيء يُخفي قبلتهما. ينزلان الدرج وهما يعرّيان بعضهما. يتراقصان. يتمايلان. لا صوت لموسيقى ولا حتى لمطر خفيف قد يصنع إيقاعاً. يدخلان بيت الزينكو. لن يتحمّل السطح حتى بالعجل الذي ثبّته فوقه، المطر القادم بعد قليل. أمشي مركزاً كامل حواسي على بيتهما. أمشي أكثر، حتى أفقد توازني، أمشي بين الرمل والأسلاك الكهربائية للمبنى، حتى أصل أحد الطوابق العليا. أتمّدد على بطني على حافة الأرضية. أخاطر بالقميص الأبيض والبدلة والحذاء، كي أكون في مكانٍ أرى فيه المشهد بكامله حين يطير، أخيراً، سطح الزينكو.

أستيقظ على أصوات العمال، وعيناي تكحلتان بغبار وطين المبنى بعد مطر ليلة أمس. التفّ البرد فوق كلّ عظمة في جسدي، خاصةً عظام ظهري. كان بيت الزينكو قد اختفى.


* كاتبة من فلسطين

المساهمون