ميشيل بوتور.. أثر عربي

28 اغسطس 2016
(ميشيل بوتور، باريس، 1964)
+ الخط -

من ضمن العوامل المجهولة التي قَد تُفسر ازدهار الفن الروائي العربي، في ثنايا المشهد الثقافي الراهن، هو الانتشار الواسع الذي حظي به تيار "الرواية الحديثة"، في سبعينيات القرن الماضي، بعد شيوع أعمال الثلاثي آلان روب غرييه وميشيل بوتور وناتالي سـاروت.

فبعد ترجمة آثارهم إلى العربية، ذاعَ مفهوم "السردية"، كاستكشافٍ للبنية الشكلية، وهو ما أسفر عن وضع مبدأ المضمون موضع النقد والسؤال، وأقصى البعدَ النفسي للشخصيات، كما فكَّكَ هيكل الرواية فجعل من فِعل الكتابة مكوِّناً أساسياً يصاحب انبجاس الحبكة الأدبية، فتطوّرها واكتمالها في تضاعيف النص.

وقد اشتهر بوتور، على وجه الخصوص، بمبدأ "التجريب الأدبي"، الذي ماهى من خلاله بين الكتابة والبحث الدؤوب عن شكلٍ جمالي، لا غاية من ورائه سوى أن يوجد، في سعي متواصلٍ لمعانقة الدلالة التي ليست إلا هذا السعي ذاته نحو بنية أدبية رائقة: فهو موضوع الكتابة وأفقها وشكلها.

وتأثر بهذا المنزع كوكبة من الروائيين العرب، في المشرق والمغرب، مثل: عز الدين المدني وجمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم ومحمد برادة، وغيرهم كثير. وكلهم ثابر على تحطيم الأبنية التقليدية للكتابة التي رسَّخها أسلوب نجيب محفوظ، في مرحلته الواقعية، طيلة عقود. ولا نعني بالتأثر أنهم اطّلعوا جميعاً على أعمال بوتور واستوعبوا الرهانات الجمالية والمعرفية التي شيَّدها في نظرياته السردية والنقدية، وإنما أنهم تمثلوا الخصائص العامة للجوّ الفكري المُبتكر، الذي أبدعه بيتور في كتاباته، وجسَّده بأعماله ولقاءاته.

باستلهام أسلوبه ونظراته النقدية الثاقبة، أسهم هؤلاء الكتاب العرب في "تعديل" الفن الروائي العربي بعمقٍ، فكسروا ما في سجلات الكلام من القيود البلاغية المهترئة، وصاغوا نصوصهم في أبنية أكثر انسيابية وأشد التصاقا بالواقع المعيش، وذلك من خلال خَلخلة الآليات السردية وتحطيم مُكونات القصِّ التقليدية مثل وَحدة الحدث، والزمان والمكان، وخطية الحِبكة والغور السيكولوجي للشخصية. فتفننوا في تنويع التداخل القصصي، حيث باتت قصة-أم تتضمن قصصاً فرعية من دون ترابط زمني، وتلاعبوا بآليتيْ الاسترجاع والاستشراف، مع اعتماد الجمل القصيرة والحوارات المتشظية، والمونولوغ الداخلي.

وأما المضمون فغدا مُركزاً على أشياء الحياة اليومية في بساطتها وإقرافها، فقد أدمجوا أبعاداً ما كانَ يخطر على النقاد القدماء أن يدرجوها ضمن ثيمات الأدب وموضوعاته "النبيلة"، وذلك مثل: الروائح الكريهة، والمومسات التائهة في ظلام الأزقة، والمخدِّرات القاتلة، والمزابل العفنة...

بهذه التحوّلات الجذرية عرفت لغة الرواية العربية آفاقاً جديدة أجبرت اللغة العربية المعاصرة على تنشيط آلياتها التوليدية، واستحضار وقائع ظلت لعقود مَحظورة، بل صارت اللغة المبتكرة ذاتها موضوع البحث الأساسي، وآلته بعد أن استهلكت في الثيمات المَكرورة، وخبا بريقها في أطر الإخبار التقليدية، فباتَ "المضمون" نافلة من القول، لا يُنظر إليه ولا عليه يُعَوَّل، بقدر ما يُعتنى بالتجريب معاناةً للأسلوب، واستكشافاً للمعنى الذي يَرفض أن يقال فيدور على نفسه، ويظلُّ يتأبَّى ويتمنَّع.

وكأنما نفخ بوتور - من حَيث لا يدري- هذه الروح التجديدية في لغة الضاد، روحاً جسَّدها في روايته "التعديل"، وأثراها بعشراتٍ من الأبحاث والمحاولات والترجمات والأعمال الفنية إلى جانب نظراته الثاقبة في السرديات الحديثة التي اغتنت بتيارات البنيوية والتفكيكية.

ولئن كان بوتور من أهم النقاد الذين تأثر به الكُتاب العرب، في فترة الثمانينيات، فلأن الواقع العربي نفسه تغير، فاحتاج إلى أبنية خطابٍ سردي جديد، قادر على استيعاب التحوّلات المدوية التي عصفت بالعالم العربي بُعيْد حركات الاستقلال واكتشاف النفط وانتصاب أنظمة الاستبداد السياسي مع الولوج في مرحلة الحداثة المادية السطحية. فحين نستكشف التأثيرات الأجنبية في إنشاء العربية المعاصرة، لا بد من العودة إلى كتابات بوتور وأقرانه التي ولئن بدت هامشية فإنَّ أثرها في كسر الطوق عن انسيابية اللغة وانهمامها بذاتها من أعتى البداهات التي لم تنل بعد اهتمام الباحثين.

ومن العجيب، أنَّ النقاد العرب لا يشيرون إلا لماماً إلى إقامة بوتور في مصر سنواتٍ للتدريس، وتـأثيره وتأثّره بالبيئة المصرية قُبَيل إصدار روايته سنة 1957.


دلالات
المساهمون