سكارليت كوتن: تبديل الأدوار الجندريّة

05 مايو 2016
(من صور معرضها "مكتوب")
+ الخط -


بعد مُضي أكثر من 15 عاماً على مغامرتها المحفوفة بالغموض على مدار ثلاث سنوات من المعايشة مع البدو في صحراء سيناء المصرية، توّجتها في عام 2002 بمعرضها الفوتوغرافي "على قيد الحياة" الذي تسلّل بين الظلّ والضوء مع كثبان الرمال، إلى حيوات أناس منسيين وشبه معزولين عن العالم؛ تعاود المصوّرة الفرنسية سكارليت كوتن، هذه المرة، بعد أن نفضت الغبار عن مغامرتها الصحراوية، مغامرةً بصريةً جديدةً مع "الهوية الذكورية" بعنوان "مكتوب" في رحلة تواصلت طوال السنوات الأربع الأخيرة، في البلدان العربية المتاخمة لحوض البحر الأبيض المتوسط.

تزامنت رحلتها الجديدة مع بدايات "الربيع العربي" الذي تراه ما يزال في طوره الأول، جالت خلالها عواصم ومدناً عربية عديدة، متنقلةً بين الشوارع والطرقات المسدودة والشواطىء المنسيّة، وبين المقاهي وباحات المنازل المهجورة، بحثاً عن أماكن خفيّة ومحايدة، وربما، آمنة بما يكفي للكشف عن مخبوءات الصورة النمطية التي تحوزها عن الذكورة العربية.

"كنت أدعو الرجال، وخاصةً الشباب منهم، إلى تلك الأمكنة النائية في مدنهم، إلى جلسة خالية من تعقيدات مجتمعاتهم، وأضعهم وجهاً لوجه مع الكاميرا، وكأنهم على كرسي اعتراف. رغبتُ بتصويرهم مع تناقضاتهم، واختيالاتهم، وقوتهم، وضعفهم، وصبواتهم؛ أردت أن أضع الهوية الذكورية، موضع معاينة ومساءلة من دون مجاملة أو رتوش"، تقول كوتن لـ "العربي الجديد" على هامش مشاركتها مؤخراً في معرض جمع صوراً من مشروعيها "على قيد الحياة"، و"مكتوب" ضمن الدورة الخامسة لـ"مهرجان الصورة الدولي" الذي تنظمه سنوياً "دارة التصوير" بالتعاون مع "المركز الثقافي الفرنسي"، وعددٍ من المؤسسات الرسمية والخاصة في الأردن.

الفنانة التي كرّست نفسها مصوّرةً مستقلّةً، ومتفرّغةً لمشاريع شخصيّةٍ طويلة الأجل، تُبيّن أن حركة الكاميرا مع الهوية الذكورية، جاءت ضمن مسار جندري أملاه الموضوع نفسه، إضافة إلى نظرتها حول الجندر الخاص بها "إنّها صورٌ لرجالٍ التقطتها امرأة وهي تراقبهم من خلال آلة تصوير ذات جندر مُحدّد؛ امرأة تُشجّعهم على تقبّل الاستسلام، وتدعوهم إلى أن يكونوا أنفسهم أمام الأضواء الكاشفة، على الرغم من إدراكهم الالتباس الذي يحيط بالفكرة نفسها"، بحسب تجربتها مع عدد من الذين استدرجتهم إلى مشروعها في بلدان طافت بها في كلٍ من المغرب والجزائر وتونس ومصر وفلسطين ولبنان، وأخيراً الأردن.

بعد دراستها التصوير الفوتوغرافي في "المدرسة الوطنية" في مدينة آرل بفرنسا، جعلت كوتن من البلدان العربية في حوض المتوسط وجهتها الرئيسية لمعاينة الهوية واستكشاف العلاقات الحميمية بين فئات اجتماعية متعددة، خصوصاً فئة الشباب والتغيرات التي طرأت عليها لجهة الطموح والتغيير وتأثرها بالثقافات الغربية، وهو ما وقفت عليه ملياً في مشروع "مكتوب" الذي يعاين بروز نوعٍ جديدٍ من الذكوريّة التي تعمل على تغيير القواعد المُكرّسة اجتماعياً وثقافياً.

"إنه النوع الذي يدفع بقوةٍ إلى التساؤل حول مبدأ الجندر والعلاقة مع المرأة لدى جيل منفتح على العالم، ولديه تطلعات نحو التغيير والتحرّر في مجتمعات أبويّة؛ حيث الحريّة الشخصيّة أشبه بعمل ثوري"، بحسب ما تذهب إليه المصورة الحاصلة على جائزة "الصورة الإنسانية" عام 2004 في العاصمة الصينية؛ بكين.

تناولها موضوع الشباب في العالم العربي وتتبّع أحوالهم وتوجّهاتهم، جاء بعد معايشتها حياة الرجال والنساء في صحراء سيناء المصرية، وتعرفها عن قرب على شرائح واسعةٍ من المجتمع العربي: "صوّرتُ الأشخاص المحيطين بي، والذين دعوني لزيارتهم، أو طلبوا تصويرهم، أو اتّخذوا وضعيّاتٍ معيّنةٍ تُشير إلى الصورة التي يفضّلون أن يظهروا عليها؛ وجدت لدى الشباب صورة مختلفة عن تلك الصورة النمطية السائدة عنهم في الغرب، حينها قرّرت التقرب من عوالمهم والكشف عن صورهم الحقيقية". تواصل متسائلة "ماذا يريد هؤلاء الشباب على وجه التحديد؟ هل يريدون تغيير المجتمع، ويسعون إلى التحرّر من الثقافة التقليدية؟".

لم تنقطع تساؤلاتها التي صاحبت مشروع "مكتوب" طوال السنوات الأربع الأخيرة في البلدان العربية من شمال أفريقيا حتى شرق المتوسط، وعرَضت طيفاً واسعاً من مخرجاتها الفوتوغرافية في دبي وبروكسل وباريس ومراكش والإسكندرية.

"في كل مرةٍ كنت أجد نفسي أمام صورٍة جديدةٍ لجيل من الشباب الذين عبّروا بشجاعةٍ وجرأة عن أفكارهم وتصوّراتهم ومواقفهم تجاه المجتمع والحياة والمستقبل، وطالبوا بالحرية والعدالة الاجتماعية، وحاولوا مع بدايات "الربيع العربي"، كسر القيود التي أعاقت تطلعاتهم نحو حياةٍ فُضلى"، تقول كوتن.

دعوة الرجال إلى الوقوف أمام عدسة كاميرا تحملها امرأة، يُعدّ بحد ذاته، قلباً للقاعدة المتعارف عليها في شيوع النظرة الذكورية التي شهدها تاريخ فن التصوير: "إنها شكل من أشكال تبديل الأدوار الجندريّة التي تُثير التساؤل حول مبدأ الإغراء والإثارة، وهي تربك، في الوقت نفسه، أنماطاً اجتماعيّةً وثقافيةً عميقةً؛ فالجلوس أمام الكاميرا مخصّص للنساء، أمّا الإدارة، فهي مهمّة الرجال"، وفق كوتن التي تتسلل عبر مشهدياتها الفوتوغرافية إلى العوالم الداخلية لشخصياتها. تقول: "أختار الرجال وفقاً للروحيّة الحرّة التي يُجسّدونها، ودائماً، ثمة تواطؤ متبادل أجده في سلوكهم، حيث الصراع بين الاستسلام والمقاومة في نظام روائي مشهدي؛ كل صورة هي سيرة ذاتيّة رومانسيّة، وكناية عن لعبة جدليّة بين الشخصيّة وبيئتها".

الأماكن المهجورة والمتهالكة التي تختارها بوصفها خلفيات وحاضنات لموضوعات صورها، لا تنفصل عن العلاقة التي تقيمها بين شخصياتها ومرويات بلدانهم الاقتصادية والسياسية: "إنها شاهدٌ على التهميش والعشوائيات ومخلّفات الحروب والأوضاع الاقتصادية المتردية في تلك البلدان، وجميعها تُحيل إلى سؤالٍ استفهامي: الحرية الشخصية في المجتمع العربي أشبه بالعمل الثوري. هل نستطيع التنبؤ بمستقبل البلدان التي تحتضن مثل هذا التهميش والخراب؟" وتُضيف أن تلك الأماكن تُشكّل بالنسبة إلى شخصياتها نوعاً من الألفة والعزلة؛ ألفتها مع نفسها، وعزلتها عن محيطها، بينما قد تكون عُرضةً لتأثيراتٍ خارجيةٍ أو داخليةٍ، في ما لو قامت بتصويرها في المساحات العامة.

الصورة التي أحاطت بها كوتن عِبر استكشاف مفهوم الهوية الذكورية في المجتمع العربي، والوقوف على بيئة الصحراء وثقافتها، تتجاوز كونها مجرد لقطة للتسجيل والتوثيق، إلى اعتبارها طريقة أو نمطاً في التواصل الإنساني مع حسيّة العالم المرئي من خلال "فن الإمساك باللحظة" وإشاعتها على نطاقٍ واسعٍ.

صورة ذاتة عبر الآخر

تشكّل المرأة هاجساً متواصلاً للمصوّرة الفرنسية سكارليت كوتن (الصورة) التي ما انفكت ترصد بعدستها، منذ عام 2011، واقع النساء العربيات والتغيرات التي طرأت عليهن خلال "الربيع العربي"، ولا سيما في المجتمعات التقليدية كمجتمعات الريف والبادية بعاداتها وتقاليدها المحافظة، والأنماط الثقافية المتجذّرة، في إطار مشاهد الحياة اليومية التي تمتلئ بالتفاصيل.

المساهمون