أن تعيد "دار زوركامب" الألمانية نشر محاضرة تيودور أدورنو (1903 - 1969) "مظاهر اليمين المتطرّف الجديد" للمرّة الخامسة في ظرف أشهر قليلة، لم يكن أمراً مثيراً للدهشة، وذلك ليس لأن المؤلف هو ذلك المفكر الألماني الشهير والذي طُبعت محاضراته التي كان يلقيها عبر الراديو الألماني وكان بذلك يؤثت الذاكرة الجمعية للألمان في الستينيات، بل لأن الأفكار التي يطرحها في هذه المحاضرة لم تفقد شيئاً من راهنيتها وعمقها، في سياق ألماني وأوروبي يعرف انتعاشة مدوية لأحزاب وأفكار اليمين المتطرف، بحيث إنه يمكننا قراءة الكتاب كما كتب مُحقّقه، فولكر فايس، مثل "تعليق على التطوّرات الحالية".
يتعلق الأمر بمحاضرة ألقاها أدورنو في جامعة فيينا عام 1967، ويمكن اعتبارها، كما قال في مقدّمتها صاحب "ملاحظات حول الأدب"، إنها استمرارية لما كتبه في محاضرته الشهيرة "ما الذي تعنيه مراجعة الماضي؟"، والتي ألقاها في سنة 1959. وكان الهدف من محاضرته في فيينا، تقديم تفسير للشعبية المتنامية لحزب اليمين المتطرف NPD الذي تأسس في عام 1964.
وسيعطي أدورنو في هذا البحث أهمية أكبر للاستعدادات الاجتماعية ـ النفسية للألمان وتأثير البروباغندا الفاشية. إنه يتحدث عن الشعور القومي المريض وحِيَل البروباغندا ومخلفات الجرح النرجسي لدى المجتمع الألماني بعد الهزيمة. ويمكن، بحسب أدورنو، النظر إلى الحركات الفاشية باعتبارها ندوباً في جسد الديمقراطية، هذه الديمقراطية التي لم تف بوعودها، برأيه، حتى يومنا هذا، أو في لغته: "لم تستحق اسمها بعد".
أول ما تقوم به مثل هذه الحركات - وهو أمر يتوجب أن ننتبه إليه - هو تجريم الأجنبي أو المختلف، وتبرئة الماضي. بعبارة أخرى إنها تلغي النقد المرتبط بالماضي من جهة، والذي يمثل، كما نعرف من مفكر ألماني آخر هو يورغن هابرماس وقبله دولف ستيرنبيرغه، حجر أساس الوطنية الدستورية، و"الإيتيقا" باعتبارها تربية على الاختلاف.
وقد نعرض هنا لما ذكره فولكر فايس عن بيورن هوكه، أحد زعماء "حزب البديل من أجل ألمانيا"، وخطبته في يناير/ كانون الثاني 2017 في مدينة دريسدن، والتي طالب فيها بتغيير راديكالي لسياسة الذاكرة الألمانية، وبلغة أخرى، إلى تجاوز للشعور المجتمعي بالذنب.
وقد أوضح أدورنو في محاضرته عن "معالجة الماضي"، أن اليمين المتطرف واستمراره يرتبطان باستمرار الشروط الاجتماعية التي أنتجت الفاشية، وذلك حتى وإن لم تكن هذه الشروط واضحة بشكل مباشر على المستوى السياسي. أحد أهم هذه الشروط تركيز الرأسمال، وما تضمنه ذلك من إمكانية للسقوط الطبقي.
إن الطبقات البورجوازية الصغيرة توجهت في الماضي إلى الحقد على الاشتراكية وتحميلها مسؤولية سقوطها الطبقي بدلاً من مواجهة النظام الرأسمالي، تماماً كما يتم اليوم اتهام المهاجرين والأجانب بتدمير ثقافة البلد والسيطرة على خيراته، بدلاً من محاكمة السياسة النيوليبرالية للأحزاب الأوروبية اليمينية منها والاشتراكية.
يشير أدورنو أيضاً إلى مسألة في غاية الأهمية، وهو يؤكد أن القومية والشعور القومي يستمران حتى في زمن المعسكرات السياسية الكبرى المتجاوزة للدولة القومية، وذلك لأن القومية تخاف من الضياع في هذه المعسكرات الكبرى وتخشى من أن يتأثر وضعها المادي سلباً، وهو ما نشهده اليوم من خلال الهجوم على الاتحاد الأوروبي أو التمرد على سياساته من طرف دول أوروبية عديدة، كما يشير أيضاً في محاضرته إلى المعارضة الريفية للمدينية وحياتها وثقافتها.
ولم يبالغ البتة حين اعتبر أن البروباغندا تمثل جوهر السياسة عند الحركات اليمينية المتطرفة، مستشهدا بغوبلز، وزير الدعاية النازي الشهير، والزعيم النازي أدولف هتلر، اللذين كانا رجال بروباغندا بدرجة أولى. ولا تهدف هذه البروباغندا، برأي أدورنو، إلى نشر أيديولوجية معينة، بقدر ما تطلب بث القلق والرعب في نفوس الجماهير. إنها بلغته "تقنية نفسية جماهيرية".
ويوضّح أدورنو أيضاً في هذا الكتاب خاصية تطبع كل الحركات المتطرفة، وتتمثل في الحقد على المثقف وعلى عمل المثقف. لقد تحوّل مفهوم المثقف اليساري إلى كلمة مرعبة برأيه في السياق الألماني، وهو يعبّر عن الشك الألماني بكل الأشخاص الذين لا يمتلكون وظيفة ثابتة أو لا يدخلون في عملية "تقسيم العمل"، بل إن الرايخ الثالث كان يرى في فعل التفكير والنقد خصوصاً تقليداً يهودياً غريباً على الروح الألمانية.