ما من صورة فوتوغرافية لجدتي

29 أكتوبر 2019
عمل لـ إبراهيم هزيمة
+ الخط -

كل الناس تتكلّم باسمكم

من لم تحرقه فلسطينيةٌ ما بقرنفلة وقصيدة
من لم يصادق فلسطينياً حدَّ الاختناق
من لم يعان البُخلَ المزعوم للصَفَديّين والفلفل الحار للصفّوريين
والمادية الجدلية الشجراوية البسيطة والعناد الحجري للخليليين والطناطرة
من لم يلفلف شَعره في التسعينات كالفلسطينيين ويسعد حين تُشبّهه أمّه بهم
من لم يسمّ نفسه "أبو عدي" تيمّناً بالفلسطينيين الذين تلقبوا بلقب الطاغية الذي استخدم أحلامهم
من لم يلعب في شوارع مخيّم العائدين بالطين
من لم تولّده داية فلسطينية من وسط قرية الشجرة
من لم يشتد عوده من القتال مع أطفال المخيّم
من لم يرم كلّ موبقاته في حِجر الفلسطينيين للهرب من عقاب جيرانه
من لم تدع له جارته الفلسطينية أكثر من أمّه
من لم يتزوج أخوه فتاة فلسطينية مضيئة كحيفا
من لم يدرّسه أبو مصعب حياتلي اللغة الإنكليزية ومعنى أن يملك الطين ضميراً
وأبو عاصم الشهابي الفلسفة والتاريخ والسياسة وتل الزعتر
من لم يصحُ على أذان الشيخ فيصل عند الفجر ويوحّد الله معه بسيجارة مشتركة بعد الصلاة
من لم يشرب دموع أبي محمد الكلثوم مع الفلافل وهو يتكلّم عن الهجرة الأولى
من لم تضربه على رأسه "رسمية الصالح" بمفتاح بيتها في الشجرة ظانة أنّه حفيدها
من لم يَدْبِك على القربة الشجراوية ويأكل الملوخية المفعوسة والمغربية
من لم يرم الطعام من فمه ويتغذى على السجائر في حرب غزة
من لم يشتر الحمام ويشرب في "الخراب" مع الفلسطينيين النحيفين كالقصب
من لم يعلّمه فلسطيني ملتح أصول الدهان والتدخين وأشياء أخرى
من لم يعِ فراغ الأحزاب والفصائل من حضوره نقاشات الانتفاضات أو العواصف المتحمسة
من لم يخرّ الدم من أنفه بعد عراك حتى الموت مع صبي فلسطيني على سيجارة
من لم يتحاشاه الآخرون في صفّه ظانين أنه فلسطيني
من لم يدرّسه مدرّس فلسطيني يهوى الأميرة ذات الضفائر الطويلة
ويغنّي في الصف من داخل شيبه "لأجلك يا مدينة الصلاة" ثم يغصّ بالبكاء
فالرجاء ألا يتكلّم عن فلسطين وخصوصا كـ"قضية استراتيجية مصيرية في الصراع العربي الإسرائيلي"

أيها الفلسطينيون أيها الشعب المدلل
أيها الفلسطينيون
أيها الشعب المدلل حتى التخمة
كل الناس تتكلّم باسمكم، ومنهم أنا بالذات.


■ ■ ■


أسطورة

ما من صورة فوتوغرافية لجدتي
قيل أن جدتي لأبي ولدته في البرية أثناء الحصاد
قيل أنها ماتت على البئر
قيل أنها بدوية من "بني خالد"
قيل أنها كانت ترعى الغنم وتخبز وتربي الأولاد وتتحمل جدي
قيل أنها أمسكت بغلاً حروناً من شعره ورقبته وثبّتته
قيل أنها عمّرت بيوت اللبن التي تزوجت فيها
قيل أن لي شامتها على الخد الأيمن
لا يتحدث أحد عنها أبداً حتى أبي
لم يكلّف أحد نفسه بتصويرها
أشعر أحياناً أن جدّتي كانت أسطورة.


■ ■ ■


قريتي

مروج البندورة والكوسا المترامية
والصِّمْدْ (المحراث القديم) وسجادات القمح الصفراء
والحواكير المتهدمة
والمهربين
والجمارك
والصوان
ومضخات المياه "الأندريا" و"المرسيدس"
ومصلح التلفزيونات
وعبدو الحلوة الذي يبيعك البزر بورقة من كتاب التاريخ
وشوقي الوسيم كفاروق الفيشاوي
و"تريلات" عمّال قطاف اللوز في الضيع المسيحية
ودير "مار الحي" وزيته المقدس
وضياء الذي يحمل اسم جورج في البطاقة الشخصية نذراً لـ "مار الحي" بعد سبع بنات
وأشجار المشمش
وخيمة جدي القصبية
وحليمة التي كانت تدعوني "طمطم"
وشجرة الصفصاف التي لا تشبه المسلسلات
والشيخ سليمان الذي يعمل في المعمار بعد خطبة الجمعة
وهناء وعينيها الزرقاوين
وعادل الذي كان يطلق النار في الأفراح بمسدس مرخص
وأم سند النورية العجوز التي تحيي تلك الأفراح وتقبض النقطة
وأبو فواز وكلبه بارود و"غنماته" العشرين
الحلّاق أنيق الشاربين الذي يرفض استخدام ماكينة الحلاقة ويعتز بالمقص
عنزة خالتي التي وقتها الجوع والوحدة
أبو عبدو البدر "خالد تاجا" القرية وسيد من يلف السجائر والقصص
قريتي الوادعة في ريف القصير.


* شاعر ومترجم سوري مقيم في إيطاليا

المساهمون