العربية.. اقتراض من الضفة المقابلة

18 يوليو 2017
إل سيد/ تونس
+ الخط -
كان أبو منصور الجواليقي (1073-1144) جريئاً حين صنَّف كتاب "المُعرَّب من الكلام الأعجمي"، يستعرض فيه الألفاظ الدخيلة التي وردت في القرآن، وفي غيره من كلام العرب العالي. فأحصى فيه ما يربو على تسع مئة مفردة تعود جذورها إلى لغات جاورت حينها العربيةَ كالفارسية والسريانية والحبشية والرومية وغيرها. وأثبت أنها أجرِيت وفق صيغ الفصيح ومقاييسه الصوتية والصرفية، فصارت بذلك فصيحة. واستعاد الجدلَ الممتع الذي دار بين المفسرين حول عربية القرآن من عدمها، وانتهى بإقرار حصول الاقتراض.

وقد لخصه ابن عطية قائلاً: "كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها بعضُ مخالطةٍ لسائر الألسنة بتجاراتٍ وبرحلتي قريش (...)، فعلقت العربَ بهذا كله ألفاظ أعجميّة، غيَّرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف ثقل العُجمة، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الصريح، ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن".

بعدها، انقطع النقاش حول هذه الظاهرة إلى أن أهلَّ القرن التاسع عشر، وشاع اقتراض المفردات من اللغات الأوروبية. ومن الطريف أنَّ التعريب طاول في بداياته مجال الصحافة التي ازدهرت في مصر والشام، فسميت الجريدة بـ: غازتا Gazetta، لفظ منحدر من الإيطالية، بالإضافة إلى كلمات جورنال Journal وجورنالجي، وقد أضيف إلى الأخيرة اللاحقة "جي" التركية، للدلالة على المهنة.

ولم يتوقف الاقتراض إلى يوم الناس هذا، إذ تفد على لغة الضاد عشرات الكلمات بانتظام، رغم معارضة المدافعين عن صفاء اللغة العربية وتفضيلهم اعتماد الاشتقاق، وفي حال الضرورة التعريب أو النحت.

وقد نظَّر رائد القومية ساطع الحصري لهذه الوسائل التوليدية قائلاً: "إنَّ الاشتقاق هو أهم هذه الوسائل الثلاث، لأنه الأفعولة الأصلية التي كونت اللغـة، وستبقى هـذه الأفعولة أهـم الأفاعيل التي ستعمل على توسيعها، زد على ذلك أن عملية الاشتقـاق تشمل الوسيلتين الأخرييْن، ومع هـذا لا شك في أن الاشتقاق وحـده لا يكفي لتوليد الكلمات التي يحتاج إليها التفكير البشري، لأن عمله مقصـور على أوزان، وقوالب معينة، وهـذه الأوزان، والقوالب مهما كانت كثيرة وولودة لا تستطيـع أن تستوعب جميع المعاني العقلية".

ومن أمثلتها المعاصرة مفردة "ثيمة"، وتجمع على ثيمات، و"كادر" الذي جيء به على صيغة اسم الفاعل، إلى جانب ما استقرَّ من فترةٍ طويلة في مجال السياسة مثل: برلمان، ليبرالية، وديمقراطية... فما هي إذن أهم رهانات التعريب وسماته اليوم؟

لئن وفدت الكلمات قديماً من الألسن الأعجمية المصاقبة لشبه الجزيرة، فإنها تأتت، في العصر الحديث، من أصول إغريقية، لاتينية أو جرمانية أي أندو-أوروبية، عبر ما استقرت فيه من اللغات القريبة من الفضاء العربي كالإنكليزية والفرنسية والإيطالية. ولكن، من وجهة النظر الألسنية المحضة، يصعب إجراء تحقيب دقيق لاقتراض كلمة ما، ومعرفة مسالك دخولها إلى لغة الضاد، وتتبع تطوراتها الدلالية ومعانيها الجديدة فيها، إلا في حالات نادرة، مثلما قد يحصل بعد التحري الشديد لمفردات أدمجها الرحالة العرب إلى أوروبا في القرن التاسع عشر، ومن كان معهم من الأدباء والمسرحيين، وكلهم لعبوا دوراً مهماً في التعريب، حين عجزوا عن إيجاد مقابل عربي صِرف. وذلك إما لعدم تمكنهم من النظام الاشتقاقي للعربية وللقيم الدلالية لكل صيغةٍ، أو لغياب المرجع تماماً عن فضائهم الإدراكي، مثل غياب السينما والمسرح والبرلمان في الحضارة الإسلامية إبان عهد انحدارها، أو رغبة منهم في الإبقاء على المصطلح الغربي، لأنه أدلُّ على الرقي الطبقي والانتماء إلى فئة الأثرياء.

ولم يخضع الاقتراض وقتها والآن، إلى قانون واضح، سواء أكان الحاجة الفعلية لمفردة جديدة، أو ترفاً فكرياً، وآية ذلك شيوع كلمة "مُغرِّد" وهيمنتها في الفضاء الإعلامي، ترجمةً لـTweeter الإنكليزية، وتغريدة لـtweet، فقد فَضلهما العرب على الأصل الإنكليزي، رغم سهولته وشيوعه في محاورات الناس، مع أنَّ سائر اللغات الأخرى كالفرنسية آثرته.

وغالباً ما تدمج هذه الكلمات المعربة في النظام الصرفي العربي، فتؤنث وتذكر وتجمع وتثنى وقد تصاغ منها الأفعال، وانظر ما فعلت لغتنا بكلمة Fédéral التي اشتقت منها فعل: فَدْرَلَ/يفدرلُ، كأنه رباعي فصيح، وصاغت منه مصدراً قياسياً: فَدْرَلة، فضلاً عن مصدر صناعي: فيدرالية، والنعت منه فيدرالي... وكلها جارية على أوزان العرب منسجمةٌ معها.

هذا ويشيع الاقتراض بشكلٍ تلقائي في اللهجات المحكية والعاميات المحلية، ولا سيما في البلدان المجاورة لأوروبا، حيث تنشط آلية الاقتباس في مجالات المعيش اليومي وأشيائه التي تملأ فضاء البيت ومكوناته، وقائمة الكلمات طويلة لا تكاد تنضبط بإحصاءٍ، ومن أشهرها فريزا وبريز، وتعليل هذه الظاهرة ميسور، فلا خيار للعرب ولا لغيرهم، في الفضاء اليومي، سوى تسمية الأشياء بالكلمات الأجنبية، لأنَّ تلك الأشياء صُنعت في الغرب وفيه سُمِّيت، بدءاً من أدوات المطبخ وأثاث البيت، مروراً إلى أدوات الزينة النسائية وموادها، وصولاً إلى بدائع التكنولوجيا. وحتى مع وجود كلمة عربية معروفة، فإنَّ الأجنبية هي التي تعتمد، ومثاله الأشهر تفضيل "كمبيوتر" على "حاسوب". وهو ما يؤكد عفوية الاقتراض وجريانه بداهةً حسب مبدأ المجهود اللغوي الأدنى.

ويصعب على المتأمل في مجالات التعريب أن يقطع بانتماء الألفاظ المعربة إلى حقلٍ معرفي مخصوص، فقد شمل كافة مناحي الحياة الملموسة منها والمجردة، أشيائها المادية (التقنية) والمفاهيم. على أنه أشْيع في دائرة المقولات السياسية الحديثة، الناشئة تبعاً لوجود جهاز دولة مركزية، مع غياب مقابل لها في الممارسات السياسية العربية التقليدية. وينتشر أيضاً ضمن مجال العلوم الصحيحة والتقنية حيث يجري اقتراض آخر ما وصلت إليه الاكتشافات في الفيزياء والكيمياء والطب...وهذا شأن الفنون كالمسرح والسينما، وحتى الفلسفة والعلوم الإنسانية.

هكذا يبدو الاقتراض عاملاً من عوامل تطوير العربية، ولعل استيعابها لكل هذه المفردات يؤكد أنَّ النظام المعجمي- الاصطلاحي العربي في أيامنا موفورُ الصحة، سليم البنية، لم يعيَ عن هضم مفاهيم الضفة الأخرى (أوروبا) ولا تلك القادمة من وراء البحار (أميركا)، بل يتمثلها ويتبناها، وقد يمزجها عند النقل بشُحن من المتن التراثي.

وفي مجال التعامل الرسمي والخطابات الجدية في ميداني السياسة والدين، يظلُّ الاقتراضُ محدوداً وشبه غائب، "ضرورة تُقدّر بمثلها" كما قال محمود الآلوسي (1856 - 1924) مقارنة بما عرفته التركية والفارسية والفرنسية التي نشطت في استعارة كلماتٍ من أصول أوروبية. ولا تزال لغة الضاد تساير العالم بتغيراته، وتقتفي أثرها بما في كنوزها من طاقات الصيغ الصرفية، وليونة نظام الاشتقاق فيها. وهذا من سحر البيان فيها.

المساهمون