"أنا الشعب": اختزال سينمائي لحكاية شعب

22 اغسطس 2016
(من فيلم "أنا الشعب" لـ آنا روسيون)
+ الخط -

"الحراك العربي" خصبٌ بحكاياتٍ، تبدأ بالذاتيّ البحت، وتكاد لا تنتهي في السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ والاجتماعيّ، علماً أنها تجد في العلوم الإنسانية، أيضاً، ما يُعينها على التحوّل إلى صُورٍ سينمائية، تستفيد من براعة الصناعة، كي تؤرشف مضامينها.

الوثائقيّ "أنا الشعب"، للفرنسية آنّا روسيّون، يُعتبر أحد الأفلام المهمّة، في مقاربة أحوال بيئة، تعيش الحراك وآثاره. يمتلك حيوية المادة المستلّة من واقع الحال. يبني عمارته الفنية على جمالية اشتغالٍ بصري. اللبنانية الأصل تذهب إلى مصر لغرضٍ فني مرتبط بالسياحة في منطقة الأقصر، جنوب القاهرة، فتجد نفسها في خضمّ انقلاب شعبي سلميّ، يُطيح برئيس ديكتاتوري، ويؤدّي إلى انتخاب "أول رئيس مدني" بـ "طريقة شرعية"، وينتهي بـ "ثورة مضادة"، لا يزال تحالف العسكر والمال والإعلام مستمرّاً في تأجيجها ضد بلد ومجتمع، وضد أناسٍ وأحلامهم الجميلة والمتواضعة.

الفيلم (111 د.) أُنتج عام 2014. لكن عروضه التجارية مستمرّة في مدن أوروبية، وتحديداً في بلجيكا، حالياً. هذا يؤكّد أهمية الصورة في مقاربة الحكاية، واضعاً الأوروبي أمام شكلٍ آخر لقول عفوي، ينبثق من بساطة فلاّح مصري، ذي مواقف إنسانية، تحيل كلّ شيء آخر إلى وقائع حيّة. هو، بهذا، يُساهم في إعادة طرح سؤال بارز ومهمّ، في السياق العام لـ "الحراك العربي" كلّه، وتحديداً في مصر: كيف ينظر المواطن الفرد إلى مجريات الحدث؟ بل كيف يعيشه؟

سؤال بسيط وعادي. لكن فرّاج، الفلاح المصري في إحدى قرى الريف في منطقة الجزيرة، يجعله أعمق من أن يكون عابراً، ويضعه أمام مرآة ذاته، كي يروي عبره حكاية بيئة، انطلاقاً من رؤيته الشخصية للمسار الحاصل في القاهرة، هو المقيم على بعد 700 كلم عنها، وعن ميدان التحرير فيها: "الثورة؟ يُمكنُكِ مشاهدتها عبر التلفزيون". يقول فرّاج للمخرجة آنا، ردّاً على رغبتها في العودة السريعة إلى مصر لمتابعة ما يجري ميدانياً. لكن فرّاج يتحوّل، هو، إلى شاشة عريضة لمعاينةٍ، أجمل وأصدق، لنبض شعبي وغليان حاصل. يتحوّل، هو، إلى راوٍ يلتقط اللحظة، ويبوح بانفعال، ويقول موقفاً، ويتابع بشغفٍ ما يراه أمام عينيه، وما يُفكّر به، وما يريده.

لن يكون فرّاج شخصية وحيدة، وإن يكن الأساسي بين الجميع. هناك زوجته وأولاده، الذين يذهبون إلى المدرسة كي يتعلّموا وينجحوا ويفعلوا، لاحقاً، ما يشاؤون (كما تقول الأم). هناك أقارب ومعارف وأصدقاء. هناك حياة قائمة بحّد ذاتها، تُصبح مع فرّاج اختزالاً سينمائياً بديعاً لوقائع عيش يومي في قلب التغيير، وإن يذهب التغيير إلى نقيض ما يحلم به هؤلاء.

يتمسّك فرّاج بالديمقراطية. يقول لآنّا روسيون: "إن ديمقراطيتنا غير ديمقراطيتكم، لهذا لن تقولي لي معلومات صحيحة". تحاول إخباره عكس ذلك، فلا يستمع. ديمقراطيته واضحة وبسيطة: يريد انتخاب رئيسٍ مدنيّ للبلد. يختار محمد مرسي. يدافع عنه أمام الكاميرا والمخرجة، كما أمام كثيرين من أبناء بلدته الرافضين لمرسي، ولـ "الإخوان المسلمين". يحاول الفصل بين الطرفين، إذْ يرى مرسي خارج الإخوان، لانتمائه إلى "حزب الحرية والعدالة". يفرح لانتخابه، لأن "هذا أول انتخاب شعبي، يؤدّي إلى فوز أول مدنيّ برئاسة الجمهورية". هذه قناعته. يرفض الانقضاض على مرسي، لاحقاً. يريد منحه فرصة، بل حقّاً له برئاسة الأعوام الأربعة كلّها. هناك من يرى في انتخابه مصادرة للسلطة. قبل الانتخاب، يقول أبناء القرية أن لا شيء تغيّر، وأن الثورة لم تفعل المطلوب منها. أولاد فرّاج يقولون أموراً شبيهة بهذه. يأتي مرسي. يحدث انقلابٌ عليه. يرتبك فرّاج. لكنه يقول إنْ أراد الشعب رحيل مرسي، فليكن. هذه "ديمقراطية" أيضاً، بالنسبة إليه.

التفاصيل اليومية في عيش القرويين أساسيةٌ في البناء والمسار الدراميين لـ "أنا الشعب". الحاجات الضرورية شبه معدومة. الـ "خناقات" بين الناس حادة. الجميع يحتاجون إلى الغاز المنزلي، والكهرباء، والمياه، وغيرها من اليوميات. هذا كلّه قليلٌ. ما تفعله آنا روسيون يتجاوز حدود التصوير والتحريض على القول والمتابعة، ويرسم لوحةً لوقائع وتوقعات وحقائق ويوميات. تناقش فرّاج. تحاول أن تبيّن له ولغيره مساوئ الحكم السابق لـ "ثورة 25 يناير" (2011)، ولمساوئ نظام حسني مبارك، عندما يحمّلون "الثورة" مسؤولية الخراب. يفرح فرّاج لظهور مبارك، عبر شاشة التلفزيون، ممدّداً على سرير خلف قضبان حديدية، أثناء بداية محاكمته. يقول لأبنائه، حاملاً عدد اليوم التالي من صحيفة مصرية: "هذا عدد تاريخي". يقول لهم ستحتفظون به، وباللحظة. ستروون لأولادكم أن رئيساً لمصر يُحاكم. ستخبرونهم أنكم عشتم اللحظة هذه.

تُتقن آنا روسيون، تماماً، كيف ترافق فرّاج في مساراته المختلفة. يهاجمها أحياناً. يطلب منها أن تسكت نهائياً. يريدها أن تحصل على الجنسية المصرية، كي تُدفن قريباً منه، وكي يكون لديها زوّار بعد وفاتها. حقيقي فرّاج، ورائعٌ. بسيطٌ وعميق. صادق ومتنبّه. يُدرك تناقضات العيش، ويسعى بدأب إلى التقاط تحوّلات يراها صائبة له ولعائلته. يشتري آلة لتصنيع الطحين، مع أن زوجته ترفض هذا. يرى في الآلة مستقبلاً لأولاده ولأحفاده.

هذا ما تفعله آنا روسيون: تُقدّم رجلاً يعرف تاريخه، ويعيش حاضره، ويتنبَّه لمستقبله.

دلالات
المساهمون