"تفسير محمد المدني": في تعدد المعنى القرآني

24 يوليو 2018
(جامع الزيتونة في تونس العاصمة، تصوير: فتحي بلعيد)
+ الخط -

يحتلُّ تفسير القرآن مرتبة أساسية في تاريخ الفكر الإسلامي، على مدى عصوره. وقد اشتهرت تفاسير دون أخرى، اعتمدت كمرجعياتٍ كبرى، من الطبري إلى سيد قطب، ولكنها انتهت إلى حَجب تنويعات وتفريعات في هذا الحقل المعرفي- الديني.

وفي هذا الإطار، تركزت جهود محققين معاصرين على العودة على تفاسير "مغمورة" والخروج منها بقراءات حول مناهجها، والكشف عن أطرها التاريخية، إضافة إلى إجراء قراءات أسلوبية عنها. ومن ذلك، الكتاب الصادر أخيراً عن "دار الكتب العلمية"، في بيروت، بعنوان "تفسير محمد المدني". وهو يتضمن تحقيقاً لتفسير وضعه عالم الدين التونسي محمد المدني (1888-1959)، أنجزه الأكاديمي التونسي المقيم في باريس، نجم الدين خلف الله، وقد استهله بدراسة تحليلية مطولة، كما ترجم منه نصوصاً تفسيرية مختارةً إلى اللسان الفرنسي.

ولد المدني في بلدة قصيبة المديوني، بالساحل الشرقي التونسي، ودرس في جامع الزيتونة، في تونس العاصمة، في بدايات القرن الماضي، وكان من بين أساتذته الطاهر بن عاشور (1879-1973)، والذي وضع هو الآخر تفسيراً شهيراً للقرآن بعنوان "التحرير والتنوير" (1967).

يقترح المحقق، في مقدمة الكتاب، مدخلاً يساعد القارئ على فهم الإطار العام لإسهامات المدني التفسيرية، حيث يشير مثلاً إلى العتاد المعرفي الذي من المفترض أن يتوفر عليه مَن يتصدّى لهذا العمل الجليل، وهو عتادٌ متعدد الاختصاصات يشمل المعارف الفقهية والأصولية واللغوية والتاريخية.

ويشير المحقق إلى وجود أكثر من مقاربة تفسيرية، فهناك "من وَقف عند حدِّ المعاني الظاهرة، واكتفى بالشرح الذي يُجلي غوامض التراكيب، ومنهم من ركّز على المناحي الفقهية-الشرعية، ومنهم من تبحَّر في استنباط الدلالاتِ الروحيَّة والأخلاقية"، وقد صنّف "تفسير المدني" ضمن القسم الأخير.

من الزاوية التاريخية، يشير المحقق إلى أن متن هذا التفسير كان، في الأصل، مجموعة من الرسائل كتبها المدني على تباعدٍ بين 1921 و1959. ويضمُّ الكتاب تفسيراً كاملاً لسورة الفاتحة والواقعة وآية النور، إلى جانب ثماني عشرة آيةً متفرّقة، شرحها بطلب من الأصدقاء، أو كتبها من تلقاء نفسه للتوسع في مسائل التزكية والأخلاق.

بعد ذلك، يفصّل المحقق منهج المدني في التفسير، الذي يقوم على تحرير المعاني اللغوية، فكان يذكر دلالات المفردات الأصلية، عملاً بمبدأ التفسير الظاهري، الذي ينطلق من المعاني الأصلية، ثمَّ يبني عليها سائر الاسترواحات الإشارية. وهو ما يقتضي تتبُّع قواعد العربية وتراكيبها النحوية والصرفية، علاوةً على الحفاظ على نهج كتب المأثور، قبل التقاط الإشارة الروحية.

ويقوم ثانياً على دعم هذه الإشارات بنصوصٍ من القرآن وفقاً لمبدأ "القرآن يفسّر القرآن"، وبالأحاديث النبويّة، بحسب مقولة: "السنة بيانٌ للقرآن"، وآثار سَلَف الأمة. كما كان يكثر من الإحالة على التراث التفسيري ويستحضر أمهات الكتب للاستئناس بما فيها من آراء. وأكثر عودته إلى الألوسي والطبري والبغوي والقرطبي والخازن والبيضاوي. وقد يدلل على مواقفه بحِكَم من كلام الصوفية باحثاً فيها عن التأسيس لمقاماتهم واصطلاحاتهم.

في مناسبات عدة، ينطلق الشيخ المدني من المبدأ القائل: "الآية تحتمل عدة معان والألفاظ تَحمل كما تحمل الأواني"، وهو تمثيل لمفهوم تعددية المعنى الذي يفيد بأنَّ نصوص القرآن لا تدل على معنًى واحد، بل تنفتح على أكوانٍ رمزية متسعة، تُستجلى بحسب الاستعداد الروحي للقارئ ومدى رغبته في التلقي.

كتبت هذه النصوص التفسيرية في الربع الثاني من القرن العشرين، حين عرفت اللغة العربية تطوّراتٍ جذرية، فارقت على أثرها الأسلوبَ القديم، وبدأ كتابها يتخفَّفون من أثقال البلاغة ويولون عنايتهم إلى المضمون أكثر من الشكل البياني. فتخلصت من الصور التقليدية وركزت على وضوح المعنى وسلاسة التعبير.

ومع ذلك، تميّز أسلوب المدني بجنوحه إلى الصياغة الحِكْميّة، ومن سماتها الاقتضاب والاختصار وتركز المعاني، فلم يَخل تفسيره من حكم وجمل إشارية عدة يوجهها لوصف الأحوال الوجدانية، فهو يطلق الجمل في شكل أمثال تصلح للحفظ وتُستعمل في التربية الروحية. وهكذا جمع تفسيره بين البَيان والترقية، وبين الإيضاح والتزكية.

المساهمون