أول طائرة إلى تونس

15 مايو 2019
وسام العابد/ تونس
+ الخط -

لقد عاد إلى تونس ليقضي بضعة أيام؛ أسبوعاً على أقصى تقدير. وها هي الأسابيع تتوالى، وهو لا يأبه لرسائل الاستفسار وطلب الرجوع إلى العمل. لم يكن في رأسه أية فكرة عمّا يمكن أن يحدث، وبالخصوص عن هذا الذي يحصل له. كان يعلم شيئاً وحيداً؛ ومتأكداً منه تماماً، مردّداً في صوت داخلي لا يُسمع:

- لا يمكن لي أن أواصل.

تذكر أن في ذلك اليوم من فيفري (فبراير) البارد، كانت سماء هامبورغ الرمادية، القريبة من الأرض، تزيد من شعوره بالاختناق. خرج كعادته من المنزل على الساعة السابعة والنصف مشياً على الأقدام، فهو يعمل في نفس الشارع الذي يقطن فيه. وليس هناك أي شيء غير عادي سوى هذا الشعور الشديد بالاختناق. الزملاء كما عهدهم في مكتب الهندسة. والقهوة الصباحية وغمائم السجائر الأولى تنتشر في الهواء. بعد مرور نصف ساعة، لم يكن قادراً على المواصلة؛ إنه لا يتذكر إن كان قال لهم إني عائد أو إني خارج. نظر إليه زملاؤه بلامبالاة وعادوا إلى أعمالهم. توقف قليلاً أمام وكالة أسفار، بدون فكرة مسبقة، متجولاً بنظره في صور البحور الزرق والنخيل السامقة والشطآن الذهبية. وواصل سيره.

- أنا محتاج أيضاً إلى يوم أو يومين.

ولم تتكوّن الفكرة تماماً بعد حتى وجد نفسه في المطار. أول طائرة إلى تونس. لم يكن يحمل معه حقيبة ولا أدباشاً. أوراقه الشخصية وبعض الأوراق النقدية. كان يردد دائماً لأصدقائه أن الحرية تقاس بمدة رد الفعل في وضع ما. كلما كانت مدة رد الفعل قصيرة، كلما كان الإحساس بالحرية كبيراً. وكان هذا الوضع الجديد لذيذ الوقع عنده؛ فبين ولادة فكرة الطيران وتجسيمها لم تمض ثوان. وكانت هذه العملية كإيذان فجر جديد. لم يشعر بزمن التحليق ولا بطريق السفر إلى مدينته "سليمان".

لما وصل أمام باب منزله، كان الليل قد احتوى كل شيء. ملأ رئتيه بهواء ذكره بطفولته، خليط من رائحة أشجار القوارص ومن النباتات المختلفة ومن الأرض الندية. وتنفس بتمهل، كان يشعر فعلاً أنه متعب. فنام مباشرة كنوم الأطفال، على نفس الجنب، بقبضة مغلقة.

أيقظه شيئاً فشيئاً لحن الشحرور المنتظم الذي يقبع على قمة شجرة الصنوبر، ثم عشرات العصافير التي نابت الشحرور في كاكفونيا لا توصف. ثم تغيّر العتمة في غرفته إلى ضوء أبيض باهت يمكنه من تمييز خزانة الملابس وشقوق النافذة الخشبية وتربيعة السقف الأبيض. لكنه كان لا يدري أين هو بالتدقيق، لأنه في لحظة ما بدا وكأنه يبحث عن جسد زوجته إرسولا بيده. هل هو في هامبورغ أم في سليمان؟ في بيته هناك؟ أم في بيته هنا؟ هل هو في حلم أم في يقظة؟ ماذا حدث فعلاً؟ إن ضوء الفجر ودقائق اليقظة الأولى تزيد في هذا التردّد.

إن ذاكرته لم تخزن بعد أحداث الأمس المتسارعة فلا تعيد إليه إلا صوراً متقطعة.. ابتسامة مضيفة الطيران.. شطآن المعلقة الذهبية.. نجوم الليل أثناء الطريق إلى سليمان.. يميز "الساك" الذي اقتناه من المطار وقد شدت إليه ملصقة السفر.. إنه هنا فعلاً..

يفتح النافذة فيخيل إليه أنه فتح باب طفولته.. هنا، منذ خمسين سنة، ولد ووقف على رجليه ومشى بين أشجار البرتقال والقارص، وهنا نطق لسانه ليسمي الأرض والماء والعصافير، وهنا تنقل إلى كل أرجاء السانية واكتشف كنوزها، وفاجأ أباه يقبل أمه، ولاحق الفراش.. رغم برودة النسمة الصباحية، انجذب إسماعيل إلى الخارج. كانت قطرات الندى كالقبب الصغيرة تكسو أوراق الأشجار وتجاعيد الأرض وتنتظر أول خيوط الشمس. روائح صباحية صافية تعبق في الفضاء تقوده كما لو كان حيوانا حاسته الأولى الشم.

كان يأتي إلى تونس في العادة أثناء الصيف ليقضي أسبوعاً أو اثنين. وكان نسي هذه الأحاسيس التي تثيرها في نفسه السانية وهي في الشتاء. سبع وعشرون سنة مرت. وها هو في هذا الفجر، وكأنه لم يفارق السانية بتاتاً، يربط الحاضر بالماضي البعيد. تختال الأشجار في ثمارها الصفراء والبرتقالية. قطف برتقالة وقشرها وأكلها وقرر أنه سعيد. مر اليوم الأول في التعرف على الأشياء وإلقاء التحية. أتذكرين يا شجرة الرند.. ما أحلاك.. لقد زرعتك أمي منذ سنين عديدة.. وأنت الآن عتيدة، سامقة.. وأنت.. آه.. نسيت اسمك.. أيتها الشجرة العجيبة بزهرك وثمرتك.. لقد جاء بك أبي من مدغشقر.. وربما أنت الوحيدة من نوعك في تونس !

ثم جاء دور شجرة اللوز التي كانت في أزهارها مثل أجمل "توب موديل".. بدون ثمن. الرجاء عدم اللمس. مروا ليس هناك شيء للمشاهدة.. هناك أيضاً أشجار البوصاع والتوت والزيتون والرمان أحياناً في نسخة وحيدة.. في الحقيقة، لما كان طفلاً، كانت السانية تبدو له كقارة.. وهي الآن تبدو له في حجمها الحقيقي، صغيرة.. لكن كل سنتمتر فيها عبارة عن كيلومترات من الصور.. مثل شريط فلم في علبة صغيرة يحدثك عن تاريخ طويل..

جاء الجنان "عم حمد" الذي ظل يعمل في السانية منذ وفاة والدته ووالده، يسقي ويحرث ويقتلع الأعشاب ويشذب. واندهش الرجل لمرأى اسماعيل فإنه لم يسبق أن رآه في الشتاء.. كانا يلتقيان كل صيف ويتحاسبان في كلمة أو كلمتين.. ما دامت السانية في حالة طيبة، فذلك هو الأهم.. عم حمد يجمع البرتقال والقارص والثمار الأخرى ويبيعها ويأخذ منها أجرته. وشعر اسماعيل في البداية أنه لا بد أن يقدّم تفسيراً أو توضيحاً.. ولكنه لم يقل شيئاً إلى عم حمد الذي يبدو غير مصر لمعرفة السبب.

في الحقيقة.. اسماعيل لا يعرفه.. هذا السبب.. كلمة واحدة كانت تعود إليه.. سبع وعشرون سنة.. سبع وعشرون سنة في الخارج.. الخارج.. الآن، لا فائدة من التنكر إليه.. في الخارج، تعلم، وسافر وتعرف على فتيات واشترى سيارات وأقام حفلات.. سبع وعشرون سنة مليئة.. وفي الحقيقة كذلك، إنه لما عاد ليوم أو لأسبوع، لم يكن ينوي أبداً أن يبقى أكثر من ذلك.. فهو لم يحمل معه أدباشاً ولا أموالاً.. أسبوع لتغيير الجو.. لكن ها هي الأسابيع تتوالى والتلغرافات تتهاطل عليه.. عد إلينا.. زملاؤك في العمل.. عد إلى.. زوجتك هوشي.. وهو لا يعيرها أي اهتمام..

بعد مرور ثلاثة أيام على رجوعه إلى بيته، وبعد أن أعاد الصور إلى أماكنها، وحقق نوعا من الانسجام مع عالمه المفقود، بدأ يشعر بالرغبة في الخروج.. لم يكن له أصدقاء كثيرون يذكرونه ولا أماكن كثيرة معهودة يتعرف فيها الناس عليه.. لكنه أراد الخروج لأنه امتلأ من الداخل.. ولا بد من المشي على الأقدام على الأقل.. كان لما يسمي الأشياء يسميها بالألمانية، ولما يفكر، يفكر مثل الألماني.. لكن لهجته وكل ما وراءها هي من جو سنوات الستين.. إن عقارب دماغه التونسي توقفت في تلك السنين.. لذلك فهو قطعة أركيولوجية لما مضى..

ولذلك، فهو لا يعرف ماذا حصل بعد ذلك.. ولا كيف يفكر التونسيون ولا ممَ يضحكون ولا حتى كيف يغازلون.. كان واعياً بكل ذلك.. وهو يمشي خطواته الأولى خارج منزله. إنه من هذه البلدة.. والحقيقة أنه من هذه السانية التي تركها له والداه ليس إلا.. أما هذه البلدة.. فماذا بقي منها؟ وكان ذلك يدعوه إلى شعور بالمرارة.. لماذا نسي في كل تلك الفترة بلاده؟ لم يعد يقرأ لكتّابها ولشعرائها ولم يعد يسمع لمغنيها وموسيقييها.. لماذا لم يسبر تاريخها ويتجول في بعيدها وقريبها؟ هل لا بد أن نقوم بجولة حول العالم حتى نعرف في آخر الأمر أنفسنا؟ وهل يكفي الوقت لذلك في ما بعد؟

- سي اسماعيل.. على سلامتك.. كنت قادمة إليك.. لقد صنعت لك أمي الخبز الطابونة.. إنها تعرف أنك تحبه.. لما كنت تأتي في الصيف.. لقد قال لنا أبي إنك في السانية.
- عالسلامة.. حنان..

شعر أن الكلمات بالعربية تأتي بطيئة ومترددة.. وبدأت تتكاثر وتتكدس على شفاهه..
- هاتها.. لا فائدة من أن تذهبي إلى البيت.. سأعود بها..

كانت رائحة الخبز وملمسه الدافئ مصدر شعور لطيف.. وهذه الفتاة.. كم عمرها.. سبعة عشر سنة.. على الأقصى.. لون بشرتها وصفاء عينها...
- كيف المدرسة؟
- لقد غادرتها..
- وماذا تفعلين؟
- لا شيء

بدا لهذا الكهل أنه وهذه الفتاة في نفس المستوى. هو كذلك أمامه لا شيء.
- أيزعجك أن تأتي غداً أو بعد غد.. فالبيت محتاج إلى بعض الترتيب..
- سآتي..

لما أتت، كان البيت قد رتب والزهور قد وضعت في الآنية.. لقد قام اسماعيل بكل ذلك. وكأنه نسي تماماً أن حنان ستأتي لتقوم بهذه الأعمال. إذن لماذا طلب منها ذلك؟ في لاوعيه، هناك فكرة موعد.. اندهشت حنان في البداية لأناقة المكان وكادت تعود أدراجها.. لكنه استمكثها.. وأهداها عصيرا لم تشرب منه إلا قليلاً.. كانت غير مرتاحة.. ثم كمن يريد أن يكسب رهاناً، حلت عقدة لسانه.. وبدأ يحدثها عن نفسه. عن حياته.. ثم عن البلدان التي زارها.. عن الهند.. وكالكيتا.. والتقاليد هناك.. وحدثها عن مصر والقاهرة والأهرام، وعن الجزر البعيدة تاهيتي وثمار الجنة والطبيعة الخلابة..

كان يلاحظ أنها تشرب كلامه وأن عينيها تتسعان شيئاً فشيئاً لتحويا آلاف الصور التي يرسمها لها وتسرحان بعيداً.. بعيداً.. بامكانه أن يعطيها دفء الأحلام.. لكنه يريد من هذه الشابة.. حرارة الواقع.. تدريجياً، تكوّنت هذه العلاقة على تبادل الحلم بالواقع. كان يكتشف ويحب مع كل يوم تزوره فيه حلاوة الدارجة التونسية.. وخفة روح هذه الشابة. كان متعطشاً لما غاب عنه مدة سنين.. ومع أول قبلة، ارتجفت حنان وذعرت فتخلت عنه تجاربه الماضية.. عليه أن يروضها.. عليه أن يتعلم من جديد لغة الحب.. لم يكن يدري ماذا يفعل..

لكن الفتاة لانت من جديد وأخذته من يده إلى دنيا كان يظن أنها لا تعرفها.. هذا الجسد الشاب قنطرة يربط بها ماضيه بحاضره.. كان يتعلم عنها كل شيء كالطفل.. ويضحك لها ويندهش أمامها.. وكانت تبدو مسحورة به... تتأرجح بين الواقع والحلم الذي أحياه في رأسها.. كان جسدها قنطرة إلى الحاضر وكان جسده قنطرة إلى الأحلام.. ومرت الأسابيع.. والأشهر.. يبدو أن الكل قبلوا أنه لن يعود.


* كاتب من تونس

المساهمون