من يختلق الماضي؟

04 يونيو 2016
كانديس بريتس/ جنوب أفريقيا
+ الخط -
حين يظهر الماضي وكأن أحداثه تقوم على خشبة مسرح، أو كأن شخصياته تتحرك في أجواء روائية مصطنعة، يمكن أن يعني هذا عدّة أشياء دفعة واحدة؛ قد يعني أننا نختلق الماضي اختلاقاً، وقد يعني أن مفاهيمنا حول الطبيعي وغير الطبيعي مصابة بالخلل، وقد يعني أننا نجهل كل ما يتعلّق بالأزمات الماضية، وقد يعني أننا نجهل أبسط قوانين الاجتماع الإنساني.

ويمكن أن نضيف عدداً آخر من المعاني الممكنة لهذه الممارسة العجيبة التي نطلق عليها تمثيل الماضي، وكلها يدور حول محور واحد هو انعدام الفعالية الإبداعية في هذا النوع من التمثيل.

هل يقدّم الماضي أدوات ووسائل وعيه وتمثيله، أم أن هذه الأدوات من اختراع الناس المعاصرين؟

يحمل الماضي معه، لدى بعض الناس، أدوات تمثيله، أي الطرق الممكنة للنظر إليه وفهمه واستيعابه وتصويره؛ الطرق نفسها الموصوفة أو الموحى بها في سجلّات الماضي التي تستبعد جوانب وتثبّت جوانب، سواء أكان الأمر يتعلّق بأحداث أم بأشخاص.

في هذا الموقف يحمل الماضي تفسيره معه، ولا يستطيع الحاضر سوى التقاط هذا التفسير الذي اجتهد مئات وآلاف الناس في تثبيته. ولا نجد سبباً يدعونا إلى التفتيش عن سمات هذا الموقف الأكثر شهرة وبروزاً بعين سكّان الحاضر، أولئك الذين ينظرون إلى الماضي بعيون سكّانه وسجلاتهم أو اختياراتهم، فيقدّس ما يقدّسون ويرفض ما يرفضون، ويصعد بأبطالهم إلى مستوى الأساطير التي صنعوها من هؤلاء الأبطال لكي يستطيعوا إدراك إبعادهم ومعنى حياتهم.

يختلف الأمرُ لدى بعض الناس، فالماضي، حين يمثلُ أمام محكمة الحاضر، يمكن أن يحضر معه شهوده، ولكن لن يكون هؤلاء سوى وجهة نظر بين وجهات عديدة وممكنة. لهذا السبب فإن أدوات وعي الماضي وتمثيله هي أدوات معاصرة بالضرورة، إنها مما أنتجه تطوّر المعرفة البشرية.

ومثلما تغيّرت صورة الكون باختراع المايكروسكوب و التلسكوب، تتغيّر صورة الماضي والحاضر باختراع المناهج العلمية، مناهج المقاربة اللغوية والنفسية والعلمية والاقتصادية.. إلخ.

إذاً، الماضي بهذا المعنى هو ما تصنعه منه المناهج الراهنة، أو المنظور الراهن الذي نراه به، ويمكن أن يقال استنتاجاً أن الرؤية غير الخلّاقة للماضي تعبيرٌ عن منظور غير خلّاق أو مقاربة غير خلّاقة، والعكس صحيح.

حسب المدارس الفكرية الفرنسية المعاصرة، يكتسب الماضي، أو أي موضوع آخر، معناه في خطاب محدّد، داخل لغة ما، فهو صنيعة بنيتها وتحوّلات هذه البنية، ولا يوجد المعنى خارج الخطاب. لهذا فإن التاريخ بماضيه الموروث ربما يكون تاريخ صيغ من الخطابات التي يحفزها تطلّب السلطة والمعنى.. لا أكثر ولا أقل.

ونعتقد أن هذا الاتجاه يفسّر كيف أن إغفال فكرة سطوة الخطاب يجعل الذين يحاولون تمثيل الماضي، بتلك الموضوعية المصطنعة، مجرّد أسرى خطاب قدم من الأمس، فلا موضوعية مهما كان من شأنها يمكن تحديد مواصفاتها خارج التصوّر البشري، وجهد صياغة المقاربات الكاشفة والجديدة دائماً.

دلالات
المساهمون