"الرابوز": فن الحلقة وإيقاظ مخيّلة التراث

29 يونيو 2016
مشهد من العمل بعدسة المخرج
+ الخط -

الجمهور أمام مسرح "تياترو" في تونس العاصمة، ينتظر الساعة السابعة والنصف للدخول إلى القاعة. من بابها، يخرج فجأة مُنادٍ يصيح "تعالوا إلى الحلقة"، يتقدّم في الجمع ثم يتجاوزه إلى الشارع، ويستمر في ندائه.

حين تتجمّع الحلقة، يظهر معه أربعة آخرون (اثنان في ملابس نسائية). يذكر الممثل للحاضرين أن لديه بناتاً يريد أن يزوّجهن. هكذا تبدأ الحكاية، حين يجد المتلقي نفسه في الحلقة، الأحاديث تتفرّع فيها بشكل متسارع، يبسط "الحلايقية" (الممثلون) للحاضرين شيئاً عن هذا الفن وجذوره وتقاليده في ساحة جامع الفنا الشهيرة في مراكش، ومن حين إلى آخر يتوقّفون ويطلبون المال من المشاهدين، أو يطلبون قراءة سورة الفاتحة على روح المسرحي المغربي الراحل، الطيّب الصديقي، كونه أحد من اشتغلوا مسرحياً على هذا الفن، قبل أن يقوموا بدعوة الجميع إلى دخول القاعة.

بعد أن طافت المدن المغربية لثلاث سنوات، سافرت مسرحية "الرابوز" لأمين غوادة هذا العام إلى مدن كثيرة في العالم: مدريد وباريس وأمستردام وبروكسل وداكار، إضافة إلى تونس.

نهَل المخرج المغربي في هذا العمل من تراث بلاده، إذ يقول في حديث مع "العربي الجديد": "إن جلب فن الحلقة إلى الخشبة نابع من اهتمامي الأول بالفنون الشعبية والأشكال الفرجوية المغربية، والتي تتضمّن الكثير من التقنيات الفرجوية، فلم يبق إذن سوى أن نجعلها قابلة للاستغلال في المسرح المعاصر".

المشروع أنتجته فرقة "فيزاج للبحث في الثقافة المغربية العميقة". يقول غوادة: "اخترت البدء بالحلقة، وبعدها أفكّر في المرور إلى أشكال فرجوية أقدم". يرى المخرج المغربي أن الطيب الصديقي وآخرين من جيله كانوا أصحاب تجربة في استخراج الفرجة الشعبية، ولكنه يعتبر أن معظم هذه التجارب اقتصرت على الاستخراج الشكلي والذهاب به جاهزاً إلى الخشبة. هنا يبيّن "نريد استغلال تقنيات تراثية وتطويعها وجعلها قابلة للقاء مع تقنيات معاصرة".

يعتقد غوادة أن "الفرجوية هي خصوصية مسرحنا وليس النص"، ولعلّ هذا ما يلمسه المتفرّج غير المغربي في مسرحية "الرابوز" حيث أن اللغة المستخدمة ونسقها يعقّد عملية تلقّي الحكاية من النص، غير أن هذا المتفرّج سيعثر في المقابل على عناصر فرجوية موازية تجعله يتابع العرض، كتحرّكات الممثلين وتنوّع أدوارهم بين رواة وشخصيات في العمل، وأحياناً يصبحون جزءاً من المشاهدين، إضافة إلى الغناء والرقص والفكاهة.

من حين إلى آخر يتوقّف العرض، ويطلب الممثلون المال من الجمهور ولا يواصلون التمثيل إلا إذا وضع بعض المتفرّجين قطعاً نقدية في أكياسهم، كأن هذه الحركات التي تحاول أن تنقل بدقّة أجواء الحلقة تجسّم ذلك الطرح البريشتي عن توق المسرحية إلى كسر الحائط الوهمي الرابع، ولعلّ فكرة الحلقة تتجاوز ذلك، خصوصاً حين تكون في الساحة أو في السوق، فهي وكأنها تكسر كل الحيطان الوهمية.

يلفتنا غوادة إلى أن "الحلقة تقوم على أن الجمهور لم يأت إلى العرض خصّيصاً، فهو بالأساس عابر في السوق، غير أن العارضين ينتزعون اهتمامه فينجرّ الجمهور لهم ولحكاياتهم". هذه القدرة التي ظهرت في إطار شعبي وعفوي يرى غوادة أنها "تضيء مسالك للمسرح المغربي، والعربي عامة، غير تلك التي يتحرّك فيها المسرح الأوروبي الذي يقوم بالأساس على خلق الإيهام، مما يجعل المسرحية رؤية للحياة يتطفّل عليها المتفرج ويسترق النظر إليها".

مقابل ذلك، يرى أن "الحلقة لا تقوم على الإيهام، بل إنها تركيبة من الحكي واللعب. يوجد فيها ميثاق متفق عليه بين الحلايقي والمتفرّج، لكنه ميثاق من دون صياغة ثابتة وهذا جوهره". ويضيف "مفهوم الإيهام غير موجود في الحلقة، المتفرّج يعرف أن الحلايقي يبتغي صناعة فرجة لا غير".

أمام تعدّد المهارات، التي يُظهرها الممثلون/ الحلايقية الخمسة على الخشبة (بوشعيب السماك وسعيد بكار وعصام الدين محريم وسعيد الهراسي ومحمد بودان)، بين التمثيل والقفزات البهلوانية والنهل من التراث الشفوي العميق والألعاب الشعبية والإضحاك، ومع تلك الانقطاعات والخروج عن النص والحديث مع المشاهدين وباسمهم، يتساءل المتلقي هل مَن يقدّمون العرض هم ممثّلون جرى تدريبهم على هذا الشكل؟ أم أنهم حلايقية جيء بهم إلى الخشبة؟

يجيبنا مخرج العمل بأنهم "جميعاً من خرّيجي المعهد المسرحي، وهم يتعاملون لأول مرة مع هذا النوع من فنون الأداء"، كما يكشف عن أن "التجربة لم تكن سهلة. كانت عملية اكتشاف لمنهج خصوصاً أن المفاهيم والتقنيات، التي اشتغلنا عليها تختلف جذرياً عما يجري تدريبه وتعليمه في المعاهد المسرحية".

ويتابع غوادة أن "الوصول إلى مرحلة العرض استغرق ثلاثة أشهر من التدريب بمعدل ثماني إلى عشر ساعات يومياً، وحتى اختيار الممثلين لم يكن سهلاً بالمرة، فكثيرون لم يستطيعوا مجاراة النسق والتكيّف مع هذا النمط".

من عرض تونسلعل تجربة غوادة في "الرابوز" تضيء لنا ذلك الجانب البحثي حول الفن الرابع والفرجة عموماً في المغرب، وتستفيد من ثمرته الأعمال المسرحية، وهو بحث يرى غوادة أنه يفيد الفنانين ولكنهم مساهمون فيه أيضاً، مستشهداً بعمل "الرابوز" حيث أنه، إلى جانب صفته المسرحية الصرفة، عملٌ بحثيّ، إذ تضمّن في سبيل إنجازه إعادة النظر في التنظير المسرحي وفي المفاهيم والخطابات والحفر في أشكال الفرجة القديمة، كما أنه مساهمة في طرح قضايا جديدة للتفكير في سبل العودة إلى الذات من خلال الأشكال التي تبلورت ضمن سياق تطوّر مجتمعاتنا تاريخياً.

يرى غوادة أن "هذا التوجّه يتماشى مع رؤية المسرح العالمي اليوم، والذي لا يمكن أن ينتبه إلى التجارب التي تشبه وتكرّر النموذج الأوروبي، خصوصاً وأن هذه النواة ظلّت لقرون منغلقة على نفسها حتى امتلأت بالكليشهات مما قتل فيها الكثير من الروح الإبداعية، وكأنه مسرح وصل إلى نهاية دورته أو أن مخيّلته الفنية توقّفت، ولعل الدماء الجديدة التي يمكن أن تغذّي المسرح العالمي وتنقذه هي أشكال الفرجة، التي تشكّلت في أماكن أخرى من العالم، سواء القديمة منها أو القريبة من عصرنا".

المساهمون