أكان الجُرجاني من عيون المُعاصرة؟

18 نوفمبر 2019
(أمام جامع الزيتونة، 1925، من مجموعة روجيه فيوليه، غيتي)
+ الخط -

سؤالٌ شائكٌ لم يُثَر من قبلُ بشكلٍ مباشر: هل كان لعَبد القاهر الجرجاني (1009-1078م)، مُؤسِّس البلاغة، دورٌ ما في نهضة العرب في القرن العشرين؟ تقتضي الإجابة عن هذا السؤال تدشينَ فرع معرفيّ كامل في التاريخ الثقافيّ، موضوعُه كيفيات تنقّل المخطوطات العربية القديمة بين أيادي المثقفين، عبر عواصمهم ومراكز تدريسهم، وأنماط استنساخها وتوزيعها وتداول مضامينها وتحويل مِلكياتها. لم يُنْجزْ مِثلُ هذا العَمل الدقيق، إلا نادراً، على كتب التراث، التي شكَّلت في عصرها أو في ما تلاها من العصور ثورةً معرفيّة. ومن بينها كتابا الجرجانيّ المتلازمان: "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز".

إذ من المعلوم أنَّ الزمخشري (1075-1145)، الذي تُوفِّي في مدينة جرجان، هو أوّل مَن استفاد من هذين الكتابيْن في وضع تفسيره "الكشاف". ثم نظَّرَ السكاكي (1160-1229)، في "مفتاح العلوم العربية"، لما فيها من الآراء صانعاً منها فروع البلاغة الثلاثة (البيان والمعاني والبديع). وبعدها فُقد التعامل المباشر مع هذيْن الكتابيْن. وبات الشرّاح، مثل الرازي والقزويني والتفتازاني، يتعاملون فقط مع "المفتاح" تلخيصاً وتحشيةً في إعادة إنتاجٍ رتيبة مُفقِرة.

وأما في الحقبة المعاصرة، فيَعود الفضل إلى المُصلح المصريّ محمد عبده (1840-1905) في اكتشاف هذا العَلَم، بعد أن استجلب ثلاثَ نسخٍ من "الدلائل"، اعتمدها في تحقيق الكتاب رفقةَ محمد محمود الشنقيطي. ثم قام بتدريسه، لأول مرة، في رحاب جامع الأزهر. ثم طبَعه تباعاً مع "الأسرار"، في مطبعة المنار (1903 و1905) بتقييدات وشروح وتحقيقات أجراها صُحبةَ تلميذه رشيد رضا.

وفي عام 1903، أي قُبيل سنتَين من وفاته، زار الشيخ عَبده تونس والتقى فيها بنخبةٍ من رجال الفكر والإصلاح الراغبين في استلهام النصوص التراثية والاعتماد على ما فيها من توجُّهٍ تحديثيّ. وليس من المستبعد أن تكون هذه الزيارة مناسبةً للتذكير بعبد القاهر الجرجاني والنصح باعتماده في المشروع النهضوي الإصلاحي. لكن لا نعثر على نصوص قاطعة تؤكد وجود مخطوطات من الكتابين في المكتبات الخاصة أو العامة في هذا الجزء من الغرب الإسلامي، عدا إشارة ابن خلدون القديمة، في "المقدمة"، لهما.

وهذه فرضيّة نضعها أمام الباحثين في انتظار توافر عناصر جديدة. ولا يسعنا سوى أنْ نرجّح أنَّ محمد عبده أهدى الطاهر بن عاشور نسختيْن مطبوعتين من "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" وحثّه على تدريسهما في جامع الزيتونة. وهذا ما حصل. أكثر من ذلك، أنجز ابن عاشور شرحاً على "الدلائل" أسماه :"الأمالي على دلائل الإعجاز"، وهو مخطوط ذَكره المؤرخ التونسي العزيز بن عاشور في "السيرة الذاتية" التي كتبها عن جدّه. ومع الأسف، فإنَّ هذه الأمالي، ونخالها بعض تعليقات حول النقاط الـمُعضلة في الكتاب، لم ترَ النور بعدُ. وقد فَشلت محاولاتُنا في الحصول على صورةٍ منها. وتجدر الإشارة إلى أنَّ ابن عاشور ضَمَّن تفسيره "التحرير والتنوير" العديدَ من النقاط التي استقاها من نَظرية النَّظْم واستخدَمَها في شرح الآيات للوقوف على نُكت "الفخامة" فيها.

كما استفاد منهما في تأليف كتابيْن آخرَيْن عن "البلاغة" وعن "الخطابة"، جعلهما بمثابة "المناهج والمقرّرات" للطلبة المبتدئين تحسيناً لكفاءاتهم التعبيرية، مما يؤكد أنّ إرث الجرجاني كان من دعائم التفكير التجديدي الذي صاغه صاحب: "التحرير والتنوير"، والذي أعاد النظر في الكتابيْن لا باعتبارهما من دواوين البلاغة فحسب، بل أداةً لتحقيق نهضة اللغة العربية وإحيائها، قطعاً مع الخطابة الجوفاء وعودةً إلى التلازم العضوي بين الشكل والمضمون، أو بين اللفظ والمعنى. علماً وأنَّ الهدف الرئيس من زيارة عبده لتونس كان توجيه إصلاح التعليم في الزيتونة. وقد ألقى بهذا الصدد محاضرة شهدها مئاتٌ من طلبة العلم ونقل تلخيصَها ابن عاشور في كتابه "أليس الصبح بقريب" (1907).

وهكذا، يتأكد أنَّ رائدَيْ الإصلاح، في المشرق العربي والمغرب، انكبَّا على دَرْس هذا الكتاب وتَدريسه واعتماده مدوَّنةً رئيسة في إصلاح التعليم لإخراج علوم البلاغة مما علق بها من الحواشي والتفريعات التي لا داعي لها، بل وجَعلها وسيلة لتحرير الكفاءة اللغوية من الجمود وتحويلها أداة التعبير الواضح عن الفكر الحي، لا التكرار الجامد، وذلك في قطيعة تامة مع تراث العصر الوسيط. وقد أعادا بذلك اكتشافَ ما في فكر الجرجاني من لمحاتٍ، شَديدة الحداثة، حول الفن الشعري ونظم الكلام وإبداع شاعِرِيِّ الصور.

وأما في ديار الغرب، فيعود الفضل إلى المستشرق الألماني هلموت ريتر (1892-1971) الذي عرَّفَ بتراث الجرجاني في أوساط المستشرقين، وذلك بعد تجشمه أعباء ترجمة "أسرار البلاغة" إلى الألمانية ونشره سنة 1959 بتَصديرٍ، كتبه بالإنكليزية، عالج فيه دعائم نظرية النظم. ويبدو أن إنجاز الباحث السوري كمال أبو ديب لأطروحة دكتوراه حول "الصورة الشعرية عند الجرجاني" وطبعها بالإنكليزية، سنة 1978 بأميركا، ساهم بقوة في تدشين مجال المقارنة بين أعمال الأسلوبيين الغربيين ونظريات الجرجاني. ومنذ ذاك الحين، أُسقِطت عليه الكثير من النظريات اللسانية والأسلوبية الحديثة، بل إنه اعتُبر لها رائداً. وغالبًا، ما ترتكب هذه الدراسات مُغالطات تاريخية، تسيء إلى الطرفيْن.

ومع ذلك، تبقى آثار الجرجاني حجر زاوية في الإصلاح اللغوي والقطع مع الإنشائيات والخَطابة والتكلف. وكأنما العودة إلى تآليفه هي رفضٌ لما تراكم، عبر القرون، من شروح وحواشٍ وتفريعاتٍ، لا طائلَ وراءَها، مما جعل البلاغة، كما أرّخ لها شوقي ضيف (1910-2005)، تغدو، بعدَه، مجرّد تصنّعٍ وتكرير للصيغ الجوفاء.

فالذي شدَّ كلّ هذه الأجيال من الباحثين لتراث الجرجاني هو ذاتُ ما شدَّهم في نصوص الحداثة الغربية، وهو عينُه ما غاب في الفكر العربي طيلة عصور الجمود: الرؤية العقليّة لمظان الإنشاء، تقديم الفكر فيها على الصيغ الصورية، والإبداع في الكتابة مع المواءمة بين الشكل والمحتوى من أجل التعبير الواضح عن الفكر والواقع. كما شدهم أيضاً "التحليل"، بوصفه آلية في إنتاج المعرفة وتوليد الحقائق من ظواهر اللغة والبيان، وهو ما يباين كلياً آلية "التحشية" التي سادت في كتب المتأخّرين. كان بحث جيل النهضة هذا منصبّاً على العناصر الضرورية للإحياء اللغوي في ضربٍ من العود إلى الأصول الصافية والاغتراف منها عيوناً للتحديث، منهجاً ومضموناً.

وكان حضور الجرجاني، في المنعطفات التحديثية الكبرى، دليلاً على متانة المنزع العقلي الذي حَكم نظريته وعلى تماسُك نُظم البرهنة التي نشرها لتأييد خطابه. ولكن ينبغي ألا يتحول اليوم إلى عائق معرفي يحجِز الدارسين ويحول دون الاستفادة مما جدَّ في علوم الأسلوبية والدلائلية بذريعة سبق الجرجاني وألمعيته. وليس أخطر على الفكر من استمرار حاجته إلى ما به دَعَمَ العرب نهضتَهم الأولى، مطلعَ القرن الماضي.

دلالات
المساهمون