"العراف والكنز المطمور": حكاية عن الرغبة وفخاخها

02 ديسمبر 2018
عدنان حاج ساسي/ تونس
+ الخط -

قد نظنّ أننا نوظّف ما حولنا لبلوغ أمر نرغب فيه، لكن ألا تجعل منا الرغبة قابلين للتوظيف من كل ما حولنا؟ سؤال تثيره رواية الكاتب المغربي المقيم في تونس عزيز شراج (1975)، "العرّاف والكنز المطمور" (منشورات سوتيميديا، تونس 2018).

بمفردات بسيطة من الحياة اليومية، وبين فضاءين اجتماعيين في تونس والمغرب، تطرح الرواية سؤالها، حين تنقلنا إلى ما بين نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي، لحظة كثيراً ما أشار المؤلف وهو يرسم عالمه التخييلي إلى كونها منعطفاً، فها هي التطوّرات الاتصالية قد تغلغلت في المجتمعات العربية وبدأت تصنع سلوكيات بعينها لتتغيّر إحداثيات الاستمتاع بالحياة ومعان كثيرة مثل الصداقة والجيرة والتضامن الأسري. أصبحت مواد مثل الإشهار والمسلسلات الأجنبية وغيرها مما تقدّمه الميديا مولّدات لرغبات جديدة صانعة لعلاقات مختلفة مع العالم، وفي الوقت نفسه لتناقضات مع القيم السائدة.

ضمن هذه الدوامة، تقف بين كل شخصية وتحقيق رغبتها استحالات، فالإمكانيات محدودة والمتطلبات لانهائية. سي رابح هو الشخصية المحورية في الرواية؛ أستاذ فيزياء بسيط يعيش مع أسرته في بلدة بالقرب من تونس العاصمة. مع تطوّر الحاجيات، بعضها حقيقي وبعضها الآخر من توليدات الوضع الجديد، يشعر بأنه لا مَخرج لسد جوع الغول الاستهلاكي إلا بثروة كبيرة. في الأثناء، نتعرّف على رغبات ضمنية له هي في الأصل رغبات زوجته وأبنائه، وبعدها يعرّفنا المؤلف على رغبات الجيران لنكون إزاء مجتمع كامل قد وُضع على سكك الرغبة وفانتازماتها.

كل هذه الشخصيات تبدو عاجزة عن تحقيق رغباتها ضمن المعطيات الجديدة، ولذلك فهي جميعاً متأزمة، لم يبق لها إلا الخروج عن الحلول العادية للوصول إلى مبتغاها. في هذا الخضم، يلقي المؤلف بين شخصياته بأحاديث عن كنز مطمور سيتحوّل إلى خلاص يسعى له الجميع.

لم يكن اختيار مهنة الشخصية المحورية اعتباطياً، فالأمل الذي ارتسم في الأفق جعل من سي رابح يتنازل عن عقلانيته المفترضة بحكم عمله وينساق إلى طوفان الرغبات، لكن لا سبيل إلى الكنز إلا عن طريق عرّاف مشهود له بالقدرة على تسخير الجان. هكذا، وفي محور آخر من محاور السخرية، نجد أن الرغبات الأكثر حداثية تستند إلى الوسائل الأكثر قروسطية لتتحقق.

كذلك ألقى شراج بشخصية مغربية في مجتمع تونسي: يتحوّل حارس أتى من المغرب للعمل في تونس إلى أمل جماعي، حيث يطلب منه المخطّطون للوصول إلى الكنز العودة إلى المغرب وتوفير عرّاف يقوم بالمهمة ويخرج الجميع من أزماتهم.

وفي "المغرب العميق" (عنوان أحد فصول الرواية)، تلتقي رغبة هؤلاء جميعاً برغبة كمال، صديق الحارس، للخروج من الفقر؛ فحتى لو لم يكن العرّافَ المطلوب فعليه أن يكون كذلك حتى ينقذ نفسه من الفقر، أي من أزمته الشخصية. وبالعودة إلى تونس، تتسارع الأحداث التي أصبح العرّاف مولّدها، قبل أن يصطدم الجميع بالخواء في الأخير.

يُحسب للرواية تغلغلها في فضاءين عربيين وإبراز التشابهات والتشابكات بينهما، وهو أمر ليس دارجاً في الأدب العربي، حيث تنغلق النصوص عادة على مجتمعاتها وتظهر البلاد الأخرى باهتة ومجتزأه.

وقد رافق هذا التنقل المكاني المستمر تنقلات أخرى، ففي رواية "العراف والكنز المطمور" نحن حيال نموذج الراوي العليم، ذلك الذي يعرف كل شيء عن الشخصيات، يتنقل بين أدمغتها فيطلعنا على ما يدور فيها من أفكار وانفعالات وانكسارات. وهو خيار أقام مسافة بين العمق التخييلي للرواية والقارئ الذي يبقى أقرب إلى متفرّج.

نخرُج من رواية "العرّاف والكنز المطمور" بصورة نقدية لاذعة للمجتمعين اللذين تحرّكت بينهما الرواية، كيف يمكن لهذا الفكر الخرافي أن يعيش بين الناس في الألفية الجديدة؟ وكيف يحوّل هؤلاء أنفسهم إلى لقمة سائغة للتلاعب، فيما هم يعتقدون أنهم يسعون إلى تحقيق رغباتهم؟ ودون هذا وذاك، كانت الرواية تقدّم إشارات بأنه لولا التنمية الرثّة في البلدين ما كانت أحداث الرواية ممكنة، والتي تنتهي بشكل مأساوي ربما بالغ فيه المؤلف بمعاقبة شخصياته على طمعهم وسذاجتهم.

المساهمون