"عاصفة من الجنة": قلق في المعمار والفن

04 يونيو 2018
("غرداية" لـ قادر عطية، من المعرض)
+ الخط -

"عاصفة من الجنة: الفن المعاصر للشرق الأوسط وشمال أفريقيا" هو الموعد الأخير الذي بدأته "مؤسسة غوغنهايم" لعرض أعمال لفنانين من "العالم الثالث" بالتعاون مع "غاليري الفن المعاصر" في ميلانو، وهو معرض يستمر إلى غاية 17 حزيران/ يونيو الجاري، وفيه يعالج -من خلال أعمال فنانين يعيشون في أماكن متفرقة من العالم- المشاكل والأزمات التي تعصف بحقبتنا، كما تتيح للزائر تحليل ودراسة الأفكار والأدوات والمناهج التي يتبعونها في إنجاز أعمالهم.

عناوين التجهيزات والمجسّمات تنبئ عن قلق، وتدعو للتوقف لبرهة، كما يقترح كتيّب المعرض: "لا تهرول، قف وتأمل"، لأن العاصفة ربما ستكون أقرب مما نتصوّر، وهي بأي حال ستنال من الجميع، دون استثناء.

هدف المعرض، الذي أشرفت على إعداده سارة رضا، القيّمة على مبادرات "مؤسسة غوغنهايم" في "الشرق الأوسط" وشمال أفريقيا، بالتعاون مع باولا تساتّي وعمر كوتشينييللو، هو الدعوة للتأمل "في أحوال منطقة حيوية من عالم اليوم". بينما تحدّثت أنّا ماريا مونتالدو، مديرة "قطب الفن الحديث والمعاصر" في ميلانو عن "الخطوط المتقاطعة للمعرض مع النقاط الأكثر سخونة في يومنا هذا".

العديد من الفنانين في المعرض - كما تشير سارة رضا - يشكّكون في قدرة "الحقائق" الموضوعية على استيعاب الحقائق الاجتماعية لعالمنا بشكل مناسب، وإخفائها بين القصص المخترعة والصور الخيالية، وتحويل أعمالهم إلى أفكار تتحدّى بشكل صريح الآمال المُسَيَّسة والقوالب النمطية حول المنطقة وتاريخها. أفكار يمكن أن نعتبرها "تهريباً لمفاهيم" لا تجد مخرجاً لها في بيئات يسودها العنف والتنكيل بحق كل من يحاول أن يعبّر عن رأيه تجاه الواقع المحيط به.

أهم المواضيع التي تستكشفها الأعمال المعروضة تتعلّق بالهجرة والهندسة المعمارية والتاريخ، عبر مجموعة واسعة من الوسائط التعبيرية بما في ذلك الأعمال على الورق والتجهيزات والتصوير الفوتوغرافي والنحت والفيديو.

يضمّ المعرض ستة عشر عملاً لثلاثة عشر فناناً في قاعات الطابق الأرضي للمتحف، علماً أن عنوان المعرض مستوحى من عمل للفنان الإيراني روكي خيري زاده، والذي اقتبسه بدوره من كتاب للفيلسوف الألماني والتر بنيامين. وعاصفة روكي خيري زاده هي سلسلة من الأعمال على الورق تستند إلى صور منقولة من وسائل الإعلام مع إضافات من قبل الفنان باستخدام تقنيات مختلفة تبدو في الظاهر كما لو أنها تشويه متعمّد، إنها تأكيد منه بأن الواقع هو أقرب إلى صورة مشكّلة منه إلى صورة حقيقية.

من السماء، نطلّ مع أعمال علي شرّي من لبنان على مدن كثيرة. صور يحكي لنا فيها عن "المناظر الطبيعية غير المستقرة"، وهي عبارة عن خرائط وصور جوية لمدن الجزائر، وبيروت، ودمشق، وأربيل، ومكة وطهران. وعلى نفس الخطى تقريباً، نرى صور أحمد ماطر من السعودية، التي التقطتها الحوّامات العسكرية أثناء بحثها عن حجّاج دخلوا خلسة إلى الشعاب والوديان المحيطة بمكة.

أما عباس أخافان، من إيران، فقد أجرى تحقيقات عميقة في اللغات البصرية والمفهومية للصروح، وأنشأ بالتالي منحوتات نباتية تبدو مُجزّأة وغير متناسبة، وبعضها أيضاً تشوبها مسحة من السواد ومؤكسدة بسبب تعرضها للهواء والضوء. هذا التبدّل، من الاخضرار إلى انحلال مُغِمٍّ، يشير إلى أن النباتات التي تنمو على ضفاف نهري دجلة والفرات فقدت معناها الرمزي الأصلي، وانتقلت من نضارتها لتأخذ شكل مستحاثات أتى عليها الزمن. قرار الفنان بعرض المنحوتات على قماش أبيض مفروش على الأرض، يقودنا إلى التفكير بالطريقة التي تُعرض فيها الأجساد البشرية بعد الكوارث في طقوس جنائزية مرتجلة.

"غرداية"، للجزائري قادر عطية، مجسّم هش مكوّن من الكُسْكُسْ، تطل عليه صورتان كبيرتان لمؤسسي الهندسة المعمارية الحديثة، لو كوربوزييه Le Corbusier وفرديناند بُوَيّون Ferdinand Pouillon ونسخة من شهادة يونسكو التي تُصنّف مدينة غرداية موقعاً للتراث العالمي. يلفت عمل عطية الانتباه إلى حقيقة أن كلا المعماريين "اقترضا" تصاميمهما الهندسية الحديثة، بعد إجراء التعديلات المطلوبة، من تشكيلات الهندسة المزابية (نسبة إلى وادي مزاب) دون الإعلان عن مصادر إلهامهما.

والفيديو الذي قامت بإنجازه الفنانة الأفغانية ليدا عبدول، "عبور دون توقف"، هو واحد من أكثر اللحظات إثارة في المعرض، حيث نشاهد مجموعة من الأطفال، بالقرب من كابول، يلعبون حول هيكل طائرة حربية سوفييتية محطّمة، ويحاولون دون جدوى، ولكن بتفاؤل وإصرار كبيرين، سدّ الثقوب التي أحدثها الرصاص بنتف القطن وشدّها بالحبال من كافة الجهات، دون كلل، وهم يصيحون بعفوية: "هيا حلّقي ... حلّقي!".

أما تجهيز جوانا حاجي توما وخليل جريج، من لبنان، ويحمل عنوان "صور كامنة، يوميات مصور، 177 يوماً من الاستعراض"، فهو تركيب مؤلف من 354 كتاباً موضّبين على 177 رفاً معدنياً، يحتوي على توصيف لصور افتراضية تمّ التقاطها خلال الحرب الأهلية اللبنانية من قبل مصوّر خيالي، عبد الله فرح، لإظهار الحدّ الفاصل بين الأسطورة والواقع.

ومن الدراما الحقيقية للأطفال الذين يهاجرون إلى تركيا نشأت فكرة "كوّن قصّتك مع المواد المقدّمة من الفنانة التركية كوُلسُن قره مصطفى"، وهو تجهيز مكوّن من ثلاثين قميصاً أبيض، بمقاس أطفال، خاطتها الفنانة بخيط أسود، لإحياء ذكرى مأساة الأطفال المهاجرين في تركيا. والعمل يتمتّع أيضاً بنبضة وثائقية تهدف إلى تسليط الضوء على تهميش النساء والأطفال والعنف الذي شهدته الشعوب المهاجرة في أعقاب التوسّع الإقليمي والاقتصادي للغرب.

أما رسومات سوزان حفونه، من مصر، التي تستخدم فيها الحبر الصيني والألوان المائية، فموضوعها الرئيس هو ستارة المشربية، وهي من ملامح العمارة التقليدية المصرية، وتتكرّر في معظم أعمالها (الصورة الداخلية من أحد الأعمال التي قدّمتها في المعرض)، سواء أكانت بالحبر، أم القلم الرصاص أم بواسطة الصور الفوتوغرافية.

دلالات
المساهمون