لعبة أكياس الكلمات

30 يونيو 2018
مانا نايستاني
+ الخط -

يلجأ بعض المتحدثين أو الكتّاب في وسائط الإعلام، والفضائية منها بخاصة، إلى عبث لغوي ينقلب فيه معنى كلمة بتغيير بعض حروفها، أو اشتقاق معنى منها يهدم معناها، أو حتى مجرّد إسقاط أو إضافة نقطة أو حرف؛ تضاف نقطة إلى "انتحابات" فتتحوّل إلى "انتخابات"، أو يسقط حرف من "مقاومة" فتصبح "مقامة"، أو تسقط ثلاث نقط على الحرف الثاني من كلمة "مسلّح" في عبارة "الكفاح المسلّح"، فتصبح "الكفاح المشلح"، وتحذف الحروف الثلاثة الأولى من كلمة "استسلام" فتصبح "سلام".

وفي حالات مشهودة حالياً، تضاف كلمات زائدة هي أخت الناقص والتنقيص إلى عبارة، كأن نقول "مقاومة شعبية" فيضيف بعض "الحضاريين" إليها كلمة، مشترطين أن تكون "سلمية"، فتهبط العبارة من عليائها وتفقد زخمها، أمام عدو يزداد "تسليحاً" بينما نحن يتزايد "تشليحنا" حتى من سكاكين المطابخ، وحجارة الطرقات.

هذا هو العبث في أكمل صوره وأوصافه، وخاصة في سياق معارك وسجالات تشتد عنفاً مع اشتداد استفزاز البديهيات أو المعتقدات، وفي غياب أو تغييب أي مرجعية تاريخية. ومن المعتاد أن نسمع في وسط مثل هذا يسوده الصخب، من يسخّف فكرة التذكير بتاريخ قضية من القضايا، أو يقطع الطريق على من يحاول وضع التعابير والمصطلحات في سياقها الطبيعي. لأن العبث لا يحدث في تركيب الكلمات فقط، بل يمتد إلى محوها تماماً (ومن هنا الإزراء بمن يحاول التذكير بوجود حروف التاريخ الخمسة) وإحلال كلمات بديلة بمعان أو دلالات مختلفة، أو حتى الإبقاء على الكلمة نفسها ومنحها دلالة أخرى.

هذا الأسلوب الأخير هو الطاغي الآن في عالم الإعلام الفضائي، وينجح أكثر في استغفال حتى الوعي الأشد صلابة، لأن ما يجري هنا على الكلمة ليس تغييرها بل خلعها من موضعها وزجّها في موضع آخر، كأن تزج كلمة "سلام" في سياق يدفع باتجاه التسليم بحق الجلاد في ذبح الضحية. أو توضع كلمة "تصحيح" في سياق دال على انحراف عن خط قويم.

هذا العبث ممارسة مبتذلة، لذا لا يمارسها الا المنفعلون (عكس المفكرين) ولا ينجح تغيير مواضع الكلمات إلا إذا عدمنا معاجم لغة متطوّرة معنيّة بعلم الدلالة أكثر من عنايتها بالتقليد الشائع؛ معنى الكلمة المعجمي كما استقر منذ مئات السنين، أو إشاعة كمية كافية من الأمية الفكرية.

ولكنه عبث أكثر خطراً لأنه الأكثر نجاحاً، ويُعتبر امتيازاً دعوياً الآن ويمارس في أكثر من وسيط إعلامي، وخاصة الوسيط الفضائي، وأكثر من سوق ودكان، فهو ما قلنا إنه خلع الكلمة من موضعها، أي الإبقاء عليها وليس محوها، ولكن وضعها في سياق آخر لا علاقة له بالسياق القديم، أي أن التغيير الذي يحدث لا يُلاحظ، ويمرّ بسهولة وبساطة، وتُعبأ أكياسُ الكلمات بأشياء جديدة، يتناقلها الناس ظناً منهم أنها لا تزال تحمل الأشياء القديمة نفسها.

والباحث الآن، المسلّح بعلم المعاني (السيميوطيقا) على الأقل، سيذهله سلوك أناس يعيشون في حالة يظنون معها أنهم ما زالوا يحملون أكياس بطاطا مثلاً، ولا يعرفون أنها عُبّئت بالحصى منذ زمن طويل في حديث هذا أو ذاك، وفي تفسير مفسرين وتجار أفكار دنيوية أو دينية على حد سواء. وسيزداد ذهوله حين يعرف، بقليل من الفضول المعرفي، أنهم سينقلونها إلى بيوتهم أو مكاتبهم أو مخيماتهم، وسيطبخون الحصى، ويتجمّعون حول قدورهم والنار تحتها في انتظار أن تنضج الطبخة. كل هذا و"المفكر" أو "الداعية" المزعوم، أو "الإعلامي" عاكف على تحريك الحصى بمجرفة أو ملعقة أو خشبة، وملتفتاً بين الفينة والفينة إلى العيون المنتظرة، مؤكداً بكلمات لا ينقصها الحماس أن ليس لهم إلا أن ينتظروا، وأن ما يحركه بطاطا حقيقية كاملة الأوصاف.

في أمثال هذه الحالات ليس لنا أن ننتظر عابراً يعبر فينبهنا إلى أن أعواماً مرّت بل وقروناً ربما في انتظار لا جدوى منه، لأن الطرقات إلينا مغلقة، والأنظار والأسماع مشدودة إلى يد داعية البطاطا وكلماته. ولأننا أشبه بسكان كهف أفلاطون المقيدين الممنوعين من الالتفات وليس لهم إلا أن يحدقوا حيث تتراءى أشباح العالم الخارجي على جدران كهفهم، وليس لهم إلا أن يؤمنوا أن ما يرونه هو العالم الحقيقي وليس أشباحه أو ظلاله.

المساهمون