"نبوءة" بازوليني.. الشاعر الذي رأى الهجرة

04 اغسطس 2019
(بازوليني في رسم بينيون إرنست، روما)
+ الخط -

عندما كتب بيير باولو بازوليني (1922) أحد أهم شعراء إيطاليا المعاصرين، قصيدته الشهيرة "علي صاحب العينين الزرقاوين" التي أصبحت تعرف باسم القصيدة "النبوءة" في الأدب الإيطالي، لم يكن موضوع "الهجرة غير الشرعية" من الضفة الجنوبية إلى الضفة الشمالية للمتوسط مطروحاً على الساحة العالمية، وكانت إيطاليا لا تعرف حينها سوى موجة هجرة داخلية من جنوبها الفقير إلى أقطاب الشمال الصناعية، كما لم يكن ثمة ما يشير آنذاك إلى أي إرهاصات هجرة عالم ثالث متوقعة للنصف الشمالي للكرة الأرضية.

إلا أن بازوليني، الذي عُرف بحسّه الإنساني المرهف، وقدرته على استقراء التحوّلات الاجتماعية، بالإضافة إلى إبحاره ضد جميع التيارات السائدة، نظم قصيدته الشهيرة تلك على شكل صلبان ثلاثة لإظهار المعاناة التي تكتنف موضوعاً شائكاً كالهجرة السرّية، وإصراراً منه على تبني المسيحية كرمز ثقافي في خطابه الفني، سواء من خلال شعره أو الأفلام التي أخرجها، وهو ما خلق شكلاً من أشكال الجفاء بينه وبين مثقفي اليسار الفرنسي وقتها، مع أن تكراره لشكل الصليب في "النبوءة" (من خلال اللعب على طول الأبيات) رسم صورتها الشعرية المتماهية مع الديالكتيك الهيغلي.

وبعد عودته من رحلة إلى فرنسا لعرض آخر أعماله في وقته، فيلمه "الإنجيل"، الذي لم يلق احتفاءً من اليسار الفرنسي، أهدى قصيدته لصديقه جان بول سارتر الذي كان قد حدّثه خلالها عن الفتى "علي صاحب العينين الزرقاوين" عام 1962، وأعاد نشرها عام 1964 تحت عنوان "النبوءة".

منذ ذلك الحين، صمت الشعر الإيطالي عن موضوع الهجرة السرّية، بالرغم من تحوله في السنوات الأخيرة من مجرد نبوءة شعرية إلى ظاهرة متفاقمة تقع في قلب النقاشات العامّة، وقد يعود ذلك إلى النزعة العامّة في الشعر الإيطالي الحديث القائم على الفردانية الموغلة.

ففي كتابها "شعريات وأفراد" (مرسيليو، 2018)، رصدت ماريا بوريو أهم التوجهات التي عرفها الشعر الإيطالي منذ 1970 إلى 2000، التي انحصرت بالهواجس الفردية المتماشية مع التحولات السياسية والاجتماعية، التي فرضتها كل مرحلة. إذ اتسمت فترة السبعينيات التي عمّها الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي في إيطاليا، بخطاب شعري سيطر عليه البوح مع انتشار التجريبية التي رافقت موجة الهيبية والتحرّر النسوي.

أما الثمانينيات فقد ميزها انتهاء فترة صدامية الفرد بالجماعة، وظهور أوزان شعرية جديدة صعبة، مضطربة داخلياً، وتزويقية مقابل الأوزان المغلقة، بالموازاة مع طرح ثيمات استعراضية صادمة تبرز حالة "التوهج الخبراتي والعاطفي" للفرد، لتخلص الرغبة في خلق معيارية شعرية معمَّمة إلى ظهور تجارب هامّة تزاوج بين التوازن الشكلي والقلق الداخلي، على غرار تجربة فاليريو ماغريلي.

وتأتي بعدها التسعينيات التي كُرّست فيها التجربة الشعرية كفعل فردي بحت لا يُلزم سوى المؤلف، على نحو ينفصل فيه كلياً عن فكرة الجماعة على مطلقها. من هذا المنظور، وعدا عن بعض الأصوات الشعرية الإيطالية المتفرقة التي ظهرت في السنوات الأخيرة والتي طرقت مسألة الهجرة، بقي التعويل في الكتابة في هذه القضية على الشعراء المهاجرين أنفسهم، تماشياً مع متطلبات الموجة الفردانية.

غير أنه بعد خمسين سنة من نشر "نبوءة" بازوليني، عاد شاعر إيطالي آخر بارز هو إرّي دي لوكا (1950) في مجموعته "بلا إياب" (فيلترينيللي، 2014)، ليتناول هذا الموضوع الذي لم يكفّ عن تأثيث النشرات واستديوهات التحليل الإخبارية، محاولاً إسباغ شعرية صادقة على ثيمة قتلها التوظيف السياسي والسجالات الحزبية المبتذلة، في عمل يأخذ شكل ملحمة إغريقية، انحاز فيها الشاعر للهمّ الانساني بأبجدية جمالية، وحفر فيها بعمق في فعل الانزياح عن الأمكنة والمقاساة التي تكتنف الانتماء إلى دوائر العرض الجنوبية من الكرة الأرضية.
"يقولون: أنتم الجنوب. لا، نحن قادمون من دائرة العرض
الفسيحة
لخط استواء مركز الأرض
ببشرة مسودّة من أشعة الشمس المباشرة
ننسلخ من وسط العالم، لا من الجنوب". (صوتان، "بلا إياب"، 2014، فيلترينيللي)

فهل غرّد دي لوكا بذلك فعلاً خارج سرب الفردانية، ليلتحم بجماعة لا يكف عددها عن التزايد كل يوم؟ أم أنه ببساطة عاد إلى حالته الجنينية الأولى، شاعراً يحمل دوماً في قلبه هموم مدينته الأم نابولي، القابعة هي الأخرى في مكان ما من الجنوب المنسيّ لإيطاليا.

المساهمون