يعرف المشهد الثقافي المغربي، في السنوات الأخيرة، نمواً لافتاً لتجربة مسرح الشارع، الأمر الذي يستدعي طرح أسئلة حول هذه الظاهرة المسرحية، وهي ليست بمنأى عن تشكل الفرجات المغربية، إذا ما عدنا إلى تاريخ الفرجات الشعبية في المغرب مثل "الحلقة"، و"أعبيدات الرما"، و"أحواش".
"العربي الجديد" استقصت آراء بعض الفاعلين في المجال المسرحي، للاقتراب من ظاهرة باتت تشكل متنفساً للفرجة المسرحية في المغرب، وأصبحت تعقد لها مهرجانات خاصة، إذ انتظم مؤخراً في مدينة بن جرير "مهرجان ألوان لمسرح الشارع".
الناقدة أمال بنويس، تشير إلى أن "مسرح الشارع أقرب إلى الأداء منه إلى المسرح، لأنه يبحث عن فضاءات غير مألوفة للعرض، كما يعيش فيه المؤدي كل مرة تجربة عرض جديدة قد تختلف باختلاف مكان وزمان وطبيعة الجمهور".
ومن أهم مميزات هذا المسرح بحسب بنويس "أنه يكيف فضاءات العرض المفتوحة كي تنسجم مع مقتضيات العرض الفقير، من الأثاث والديكور. ولا يمكن بأي حال اعتبار مسرح الشارع ظاهرة جديدة في المغرب، وإنما عودة بروز شكل فني تعبيري عرفه المغاربة قبل عقود من الزمن، من خلال ما كان يقدم في الساحات العمومية من فرجات شعبية كانت تتأسس على الحكاية ولعب الأدوار تحت ما سماه الناقد حسن المنيعي بـ "الأشكال ما قبل المسرحية" أو الفرجات الشعبية أو الحلقة".
وتعتبر بنويس أن "الجديد بالنسبة إلى مسرح الشارع، ليس الظاهرة في حد ذاتها، وإنما انتشاره المتزايد وتناسل الفرق الممارسة لهذا الفن، واهتمام الشباب الهاوي والمحترف بهذا الفن على حد سواء، وتزايد اهتمام المؤسسات الفنية بهذا الشكل الإبداعي من خلال تنظيم ملتقيات ومهرجانات وطنية وعربية".
السينوغراف والأكاديمي طارق الربح، المتخصص في "مسرح الشّارع في المغرب"، يشير إلى أن "الأشكال الفُرجوِيّة التي تَنْشُط في المكان العمومي، وجب تقسيمها ما بين فرجات شعبية وعروض مسرحية يصطلح عليها بمسرح الشّارع"، مبيناً أن "الفرجات الشّعبية التقليدية، نتاج محليّ يُمكن نِسْبته إلى التراث، أمّا مسرح الشّارع فهو فرجة تعتمد على الابتكار والتفاعل مع التيارات الإبداعية الموجودة على الصعيد العالمي".
ويضيف أن "تجارب مسرح الشارع المغربية آخذة في الانتشار والنّمو، سواء على مستوى الإبداع والإنتاج، أو على مستوى التّوزيع والتدبير، إضافة إلى تزايد فرقه المتخصّصة منها وغير المتخصّصة، وتزايد المهرجانات والتظاهرات الّتي تحتفل بالفرجة في الأماكن العمومية، الأمر الذي يُترجم حاجة الفرجة المسرحيّة المغربية لجمهور أكثر تجاوباً وأوفر عدداً من جماهير القاعات المسرحيّة".
فيما يؤكد الناقد عادل القريب، أن "هذا الانتشار راجع لعنصرين؛ الأول يرتبط برغبة المسرحيين في الخروج بأعمالهم إلى جمهور أكبر من أجل ترسيخ الثقافة المسرحية لديه، وأما الثاني فيتعلق بالتحول الجذري الذي بات يشهده المجتمع المغربي وأضحى على استعداد لتقبل جملة من الظواهر بل والانخراط فيها دونما تردد، نتيجة خروجه من جلباب المحافظة إلى وشاح التحرر والتمدن".
ويتساءل القريب إن كان "يمكننا في المغرب الحديث عن مسرح الشارع بالشكل المتعارف عليه في الغرب؟ ذلك أن الفرق المسرحية التي تنشط في المغرب، ما زالت لم تحظ بالاعتراف التام والجدي من المؤسسات الرسمية، ولا تعدو العروض التي قدمت وتقدم في إطار مسرح الشارع إلا محاولات فردية غير مهيكلة".
لكن القريب يلاحظ أيضاً أن تجربة مسرح الشارع "ما زالت بعيدة عن الانخراط الجدي في قضايا المجتمع وهمومه، وتكاد كل العروض يغلب عليها الطابع الاحتفالي الفولكلوري في شق كبير جداً، ناهيك على أن معظم ممثليها من الشباب أو مجموعات السيرك، ومن هنا طغيان الاحتفال والاستعراض والبهلوانية، الشيء الذي يجعل علاقتها بالجمهور محدودة نوعاً ما".
بدوره يلفت المسرحي بوسرحان الزيتوني، الى أن "المغرب عرف فرجة "الحلقة"، لكن هذا الشكل من الفرجات كان يندمج مع الفضاء العام لأيديولوجية سائدة، ولهذا فقد ظل يشتغل في الفضاء العام المشترك، اشتغالاً محكوماً ومتحكماً فيه".
ويرى أن "الفرجات التي تتوجه الى شرائح مختلفة من الناس، قد لا يكون المسرح شاغلهم أو جاذبهم ولا هم معنيون به، تساهم في جعلهم يكتشفون من خلالها تطور ما كان يسحرهم (الحلقة) وجماليات المسرح مع ممثلين محترفين وبفنيات مثيرة". غير أن مسرح الشارع يعاني، بحسب الزيتوني، "من مشكلات لا حصر لها تحد من تمدده واتساع رقعته من جهة ومحدودية سقف الحريات التي تحد من خطابه العام، ناهيك على مشكلات تنظيمية وقانونية، تتعلق بالترخيص والفضاءات".
الباحث أحمد بلخيري يؤكد أن مسرح الشارع شكل متمرد على العلبة الإيطالية وهو ليس وليد اليوم، بل إنه كان موجوداً في فرنسا منذ القرن التاسع عشر. وقبل مسرح الشارع كان مسرح الحي، مع الاختلاف الموجود بينهما". ويضيف "يمكن القول بأن هناك تدرجا، إذا اقتصرنا على المسرح الغربي في العصر الحديث، من مسرح العلبة الإيطالية إلى مسرح الحي إلى مسرح الشارع. تدرج راجع إلى دينامية التحولات الاجتماعية والسياسية. ومثلما كان تسبيس في القرن السادس قبل الميلاد في اليونان يقدم مسرحه على عربة في الأسواق ذاهباً هو بمسرحه إلى الجُمهور، فإن مسرح الشارع كذلك هو الذي يذهب إلى الجمهور، وليس هذا الأخير هو الذي يذهب إلى المسرح".
لكن بلخيري يتساءل "هل يمكن أن يحافظ مسرح الشارع على الحرية، أي حرية الإبداع التي هي أوكسجين هذا الأخير؟ ألا توضع قيود أمام هذا النوع من المسرح سواء من لدن المبدعين المسرحيين أنفسهم، تفاديا للمنع، أومن لدن سلطة الوصاية؟ مازال هذا النوع من المسرح في بداياته الأولى. وقد يتمكن من فرض ذاته مستقبلاً بعيداً عن كل الإكراهات التي تحد من انتشاره وإشعاعه. لكن هذا الهدف يتطلب وقتاً وصبراً وعملاً دؤوباً. ويتطلب، فوق ذلك، دينامية سياسية منفتحة لا تضع أي قيود أمام الإبداع".
وترى طالبة دراسات المسرح، يمنى قشوشي، أن "مسرح الشارع أقرب الى الجمهور، والى الفضاء المشاهد، وأقرب أكثر الى وجدانه، بحكم التفاعل المباشر الذي يحدث أثناء تقديم العرض. بل يستطيع الجمهور أن يتحكم في إيقاع العرض أثناء المشاهدة.. ويبقى مسرح الشارع هو "المرآة" المعبرة عن دواخله".