عاميتنا المخيفة.. الألسن ونوازعها التحقيرية

07 نوفمبر 2017
تنصيب لـ هالة عموص/ تونس
+ الخط -

ما زلتُ، ورغم كل ما جمعته من ثقافة واختلاط بالناس، في الموطن والمهجر، أقف عاجزاً عن فهم المغزى الحقيقي من وراء إغراق خطابنا اليومي بأمثلة تأخذ مما تحت الزنار، ولا تتوانى في السعي جاهدة إلى الحط من قيمة البشر، سواء كانوا غرباء أو قرباء، للدلالة على "قوة اللسان".

أن تصف فلاناً بابن كذا وكذا قد لا يكون حكراً على عاميتنا، تجده لدى قبائل وشعوب الأرض الأخرى. فقد يرطن الغربي بالـ"إف" في عامية "ثقافة اليانكي" التي جرى تعميمها عبر السينما والإعلام، لكن أن تنحدر عربية "الأدب الرفيع" في دمشق والقاهرة وبغداد ونواكشوط وغيرها، ثم أن نحملها معنا إلى مهاجرنا الغربية، فلا بد من مراجعة تحتاج جرأة جماعية لا فردية.

سمعتُ شتائم بلغات وعامية شعوب كثيرة غير عربية، ولكن يذهلني أن بعض الإخوة من أكراد الكويت يستخدمون في الدنمارك الشتائم العربية القاسية يقحمونها في خطابهم، وكأنهم لا يملكون ملكة الشتم في الكردية أو الدنماركية وبقية اللغات التي يتحدّثونها.

كثيرة شتائمنا بالعاميات العربية. يكفي استذكار ما سمعناه في صغرنا، في الحي والمدرسة، مع ما يمكن أن نستعيده في هذا السياق من نفاق منزلي، إذ يبدو الفرد، طفلاً أو يافعاً أو كهلاً، أنثى وذكراً، في قمة الأدب والخلق. قد لا نحتاج، هنا لضرب أمثلة مما اختزنته أدمغتنا، فالأكيد أن كل قارئ لديه في معجم ذاكرته ما يكفي مما أشير إليه هنا.

من أين لنا كل تلك العبارات التي يمعن بعضنا في سوقها كشيء طبيعي، بحيث تصبح معه آداب الشهامة والكرامة والخلق في لغتنا نقطة من بحر خطاب سائد يغلي فيه الفحش والتهوّر والعبث بالكلمة.

لنذكر على سبيل المثال لا الحصر تأثير خطاب موجّه إلى طفل صغير يقول: أنت كذا؟ (حمار في أحسن الأوصاف) مع تكرار العبارة لأتفه الأسباب. بالتأكيد لن يخلق ذلك الطَرْقُ المتواصل عقلاً سليماً ولا ثقة نفسية قادرة على تحدّي الرهانات التقزيمية التي يمكن أن تجابهه في محطات كثيرة من حياته، بل قد يصبح هو الآخر مصدّراً للشتيمة حين يعتبر الأمر طبيعياً ما دام الوصف التحقيري يأتيه من أقرب الناس إليه.

ثمة حاجة ملحة إلى مراجعة منطوق عامياتنا، ليس من أجلنا نحن أبناء جيل انكسارات القرن العشرين، بل من أجل غد أطفالنا وأحفادنا. من الواجب أن نعيد النظر بجرأة في الخطاب الذي نورثهم إياه، كي لا نورثهم معه كل الأمراض التي اختلقته.

مراجعة لا تنحصر فقط في ما تتلفظ به الألسن، بل في نوايا استخدام أي عبارة ننطق بها والرغبة في توظيفها للحط من قيمة الإنسان وتفريغ الشعور بالنقص أو الفوقية.

المساهمون