نبش الماضي

25 اغسطس 2017
مليحة أفنان/ فلسطين
+ الخط -

في رواية "جومبي" (1966) للسوري أديب نحوي يتنافس شابان، قوميّا النزوع الفكري والنضالي، على حب فتاة اسمها أمينة، وتقول الرواية - أو الروائي - مستدركة "إن كلاً منهما يعترف أن الوحدة ـ العربية بالطبع ـ كانت أغلى من حبّهما الشديد لأمينة". وسوف تثير هذه المعادلة الغريبة العجب والاستغراب اليوم إذا ما أقدم أي روائي على وضعها في ميزان العلاقات.

ولدى المكتبة النقدية العربية العديد من الدراسات التي كُتبت حول الاتجاه القومي في الرواية، وهو الاتجاه الذي تنتمي إليه هذه الرواية بحسب النقد. وفي الغالب، فإن الرواية العربية لم تقارب مسائل الصراع والاقتتال الداخليين، إذ بدا، في القرن العشرين، أن المجتمع العربي يأخذ بالمشترك والموحد، وينبذ المختلف. وقد يكون هذا الأمر وراء الاستهانة بالتنافس على الحب والمشاعر. فقد كانت الوحدة أكثر قدسية.

كانت هموم الرواية تمضي في وجهتين: الأولى هي البحث عن الهوية الضائعة، إذ ينبغي على أي فكر قومي أن يضيع جزءاً من الماضي، ليبحث عنه. وهناك من يعتبر أن أجزاء كثيرة منه شبه ميتة، وعليه أن يبعثها. والثانية هي التأكيد على السمات المشتركة في وجه المحتلين الأجانب. ويمكن بفضل هذه الاستنتاجات أن يكون الجميع قد ارتاحوا إلى فكرة الوحدة، وتخلّصوا من أسباب الخلاف.

يعتبر العديد ممّن نظروا لنشأة القوميات والأمم أن اختراع الماضي واعتماد حكايات خاصة، سيكون أمراً ضرورياً من أجل صياغة خليط من البشر في جماعة واحدة. وسوف ترى أن ثمة من يقول إن على الناس أن ينسوا أجزاء من ماضيهم، كي يتمكنوا من العيش المشترك. والراجح أنهم يعنون تلك الأجزاء التي يخشى أن يكون لها دور في تدمير المشترك الذي تم اختراعه، أو تذكّره. وأغلبها حروب ومعارك واقتتال على السلطة، والحكم.

ويرشح بيندكت أندرسون في كتابه "الجماعات المتخيلة" الرواية والصحافة لمكانة المسؤول عن تمكين الناس من تخيّل آخرين غير معروفين، بوصفهم أعضاء في جماعة واحدة. وفيما كان رجال عصر النهضة العربية يتحدّثون عن إحياء الماضي، ينكص رجال الحاضر نحو نبش الماضي، وهو نكوص شبيه بنبش القبور. ولا يرى الفاعلون في حروب اليوم غير حقوق الوراثة في الإمامة، أو "أخطاء" رجال ماتوا منذ أكثر من ألف عام.

وتكاد تضيع المقالات والدراسات التي تشير إلى فحوى الصراعات الراهنة الطبقية مثلاً، أو إلى طبيعتها القائمة على البحث عن العدالة، أو الديموقراطية. بل إن "الحرب على الإرهاب"، التي تقودها الدول الكبرى، وتشارك فيها الدول التابعة، هي حرب دينية في مضمونها.

وهو تحوّل خطير يرفض المقولات، والوقائع، عن تشكّل الأمم. إذ يبدو أن أعضاء الجماعة التي افترضت الرواية العربية القومية، أنهم أنجزوا مرحلة التشكل، يتقهقرون إلى الماضي الدموي وحده. والسؤال الذي يواجه الرواية العربية اليوم هو: ما الذي يمكن أن تختاره في حكاياتها المقبلة؟ فلدى الروائيين طيف واسع من العرب الذين توزّعوا في المهاجر، أو وضعوا في خيارات عديدة، قد لا يكون من بينها خيار التكوّن القومي.

المساهمون