جورج شحاده.. حدائق لم يعد عندها بلد

17 يناير 2017
(جورج شحادة (يمين) وزوجته بريجيت مع موريس بون، 1953)
+ الخط -

كمتلقٍّ إلى جوار الملايين الذي تابعوا أعماله بأكثر من خمسين لغة ينتمون إليها، تواجهت مع جورج شحاده (1907 – 1989)، الذي تمرّ ذكرى رحيله اليوم؛ في مسرحيته "مهاجر بريسبان"، التي تابعتها في أكثر من توليفة إخراجية منذ تسعينيات القرن الماضي، وكلّ نسخة منها جرى إسقاطها على بلاد وواقع صنّاعها.

العمل الذي تخيّل صاحب "قصة فاسكو" أحداثه وشخوصه في قرية "بلفنتو" الصغيرة في جزيرة صقلية عام 1925 بأسماء إيطالية، بدا كأنه يدور في فضاء غير محدّد في زمانه ومكانه كما لو كانت هذه القرية مسرحاً يقف عليه معظم البشر الذين قد تنقلب حياتهم إلى تناقض حاد بين مبادئهم وبين مصالح "متوهّمة"، ليكتشفوا لاحقاً أن أزمة الوعي والأخلاق لديهم أعمق من "تصالح" كانوا يظنّون عبثاً أنهم يعيشونه.

كُتبت أغلب أعماله المسرحية بدءاً من الخمسينيات؛ في سياق حالة احتجاج اجتاحت أوروبا والغرب للتعبير عن رفض مجتمع ما بعد الحرب العالمية الثانية لقيود عديدة كانت تكّبل ثقافته وسلوكيات أبنائه، إلّا أن شحادة الذي كان فاعلاً في الثقافة الفرنسية اختار صوته الخاص للتعبير عن نظرته للكون والإنسان والفن.

في "مهاجر بريسبان" (1965) يتخلّى أهل "بلفنتو" عن إحساسهم بـ"العار" حين علموا بأن القادم الغريب الذي أتى محمّلاً بالأموال هو ابن بلدتهم وكان قد رحل عنها منذ عقود بعد أن حملت إحدى نسائهم منه وعاد اليوم ليصحّح ما "اقترفه"، فغدا كلّ منهم يحلم بأن يكون أباً لـ"ابن الخطيئة" لعلّه يقبر فقره، ليتبيّن في النهاية أن سائق العربة أخطأ الطريق فأوصل المهاجِر إلى قرية غير قريته.

تتكرّر اللعبة على نحو مغاير في مسرحيته "السيّد بوبل" (1951) التي تروي قصة عجوز طيب يحبّه جميع أهل بلدته، لأنه ينطق حكمةً على بساطتها يعجزون عن اجتراحها ضمن حياتهم الساذجة، إلى أن يجد نفسه مضطراً للسفر إلى جزيرة مجهولة اسمها "باولا سكالا" لأسباب لا تبدو واضحة، وهناك يصيبه المرض ليفارق الحياة بعيداً عن قريته وأهله وحيداً إلّا من تأمّلاته التي دوّنها في كتاب.

يُجسّد السيد بوبل أحد تجلّيات شخصية شحادة نفسّه، وهما يتماثلان في مسار حياة كلّ منهما في مبتدئها ومنتهاها، بل إن تلك الشخصية التي تحيا خارج مكانها ستظهر بشكل أو بآخر في بقية أعماله، حيث يروي في "سهرة الأمثال" (1954) وقائع الإعداد لاحتفال سريّ وغامض في فندق وسط غابة قصيّة تنتهي بحادثة قتل لينفذ عبر تلك القصة إلى تفكيك الكلمات والقوانين التي اعتدنا عليها وبتنا نعتقد أنها جزء أساسي من رؤانا وذواتنا، باحثاً عن لغة وسياقات جديدة تجعل المرء أكثر انسجاماً مع محيطه.

الانسجام الذي سعى إليه صاحب "أشعار" يرينا الأشياء المألوفة غريبةً عنا، وتلك غير المُفكَّر بها أكثر اتساقاً مع طبيعتنا الإنسانية، وتبدو هذه الخلاصة متوافقة مع قربه من تيار السوريالية وصداقته المتينة مع رموزها في ذلك الوقت، لكن نظرة متفحصّة لنصوصه المسرحية، والشعرية كذلك، تحيل إلى اختلاف جوهري مع نتاجات السورياليين؛ فهم رأوا أنّ الإنسان المعاصر عاجز عن التواصل مع الآخرين ما يقوده إلى العبث كنتيجة لتنافره التامّ معهم، بينما كان ينزع شحادة إلى إيجاد معادلة بديلة يصل الفرد من خلالها إلى تصالحه "المطلق" مع الطبيعة والعالم من حوله، حتى لو بدا ذلك محض تخييل.

الموت هو النهاية الحاسمة والمريحة لعدد من أبطال شحادة، باعتباره خلاصاً من حياة مضطربة وملتبسة ملؤها الفصام، وهو أيضاً يمثّل لهم بداية جديدة وفق منظور كاتبها، إذ يذهب بهم نحو حتفهم وكأنهم سائرون في نزهة ممتعة، فيصلون إلى نهايتهم لكن أسئلتهم وهواجسهم تبقى مستمرة.

وليس بعيداً عن هذه المقاربة يُمكن تلمّس أفكار ذات صلة؛ من أبرزها تلك الإشارة إلى إتقانه اللغة العربية التي تعلّمها منذ صغره في الإسكندرية؛ مسقط رأسه، وفي بيروت حيث عادت أسرته إليها ليكمل دراسته الثانوية والجامعية متخصّصاً في الحقوق، ويبتدئ حياته المهنية هناك قبل أن ينتقل إلى فرنسا عام 1933، ويختار الانتساب إلى وسطها الثقافي والكتابة بلغتها، ويحظى بتقدير ومكانة كبيرين بعد أقل من عقدين من إقامته فيها.

هل بحَث صاحب "زهور البنفسج" (1960) عن وطن جديد يسكنه بلغة وسيطة غير لغته الأم؟ وطن يؤثثه بحنين إلى لبنان يخصّه وحده فتتنكّر أمكنته وأناسها بتسميات "أجنبية" لكنها تحتفظ بحكاياتها وأسرارها وروحها، ويعيش وطنه كمنتمٍ إلى الثقافة الفرنسية لا كمواطن فرنسي، بحسب ما كان يصف نفسه، ولن تغادره أيضاً لكنة مصريّة ظلّت تشير إلى مسقط رأسه البعيد.

لا إجابات محدّدة عن هذا التساؤل، وربما سيفاجأ كثيرون بأن سيرة الرجل يكتنفها الغموض في كثير من جوانبها التي لم يسع يوماً إلى توضيحها وهو الذي رفض إجراء مقابلة صحافية معه طيلة حياته، ولم يترك سوى صور شخصية معدودة، ومعلومات أقلّ عنه.

في البحث عن سنة مولده، نقع على أكثر من تاريخ: 1905، 1910، لكن الشاعر والناقد اللبناني شربل داغر ينقل عنه في لقاء جمعهما، أن شحادة كتب تعريفاً موجزاً عن نفسه رداً على سؤال من لجنة منحته جائزة عن أشعاره، كان نصه كالتالي: "ولدت في الإسكندرية في مصر في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1907، في عائلة لبنانية من الطائفة الأرثوذكسية، ذات ثقافة فرنسية".

اللقاء ذاته يكشف فيه شحادة أنه كان يتحاشى الحديث إلى الإعلام، وكلما وجّه إليه سؤال لاذ بالصمت أو حوّله إلى أسئلة باتجاه مقابِله، ولم ينج من قلقه إلّا بالكتابة، فإذا هممت بالجلوس بقربه قام من مقعده، وإذا قمت قبالته أدار ظهره ومشى... وإذا تبعته جلَس.

لا وقائع متسلسلة وكاملة لعمر مديد جاوز ثمانين عاماً، فمعظم ما يُروى عنه يدخل في خانة التكهّن وعدم اليقين، لدرجة أن تُنسب إليه مقولات لم يأت بها، فلا أثر ثابتاً حوله سوى كتاباته التي ذهبت إلى تكثيف اغتراباته وإحساسه بالوحشة من العالم والحزن عليه في آن، ولم يكن أفضل من المسرح معادلاً موضوعياً لها، فلا ينفصل فيها عن الواقع لكنه لا ينغمس فيه؛ الجميع فوق الخشبة، والجميع خارجها، وكلّ ما فيهم يذكّر بعاديتهم وبشريّتهم إلّا ما يقولونه كأنبياء أو فلاسفة أو مجانين خروجاً أو تسامياً على لحظتهم الراهنة.

"خروج" إلى المسرح بوصفه امتداد القصيدة، تلك التي بدأ وختم حياته بها؛ حياة من برزخ كلمات كأنها كتبت للتو، ومن قلق ورعشات لا تنتهي، حيث دوّن في إحداها:
"هناك حدائق لم يعد عندها بلد
وحيدةً برفقة الماء
تقطعها حمائم، زرقاء ولا أعشاش لها.

لكنَّ القمر هو بلّور السعادة
والطفل يتذكّر فوضى عظيمة".

المساهمون