لم تنل المنجزات الفكرية والأدبية للمفكر والمربي المقدسي خليل السكاكيني (1878 - 1953)، الذي تمر اليوم ذكرى ميلاده، نصيبها الوافر من الدراسة والمراجعة والكشف.
لم يقارب أحد - باستثناء دراسات مختصرة هنا وهناك - منجز الرجل في الحقول التربوية والأدبية، لا سيما رسائله ويومياته كثيفة الدلالة والحمولة التي تبدو مدخلاً هاماً لفهم تحولات الانتقال من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، وما رافقها من تحولات كبرى اجتماعية وسياسية، كان أهمها بداية تفكك منظومة الاستعمار التقليدي في المنطقة وما تلاها من هجرة يهودية إلى فلسطين، وانتهاءً بفلسطين منكوبة، وبه طريداً ونازحاً من بيته وبلده إلى القاهرة.
ولعل من المجحف الادعاء مطلقاً بصفرية الدراسات التي تناولت منجز الرجل، إلا إذا أضفنا إلى ذلك تخصيصاً مفاده أن معظم هذه الدراسات تناولت سيرته ويومياته بالقليل من العروج إلى اتجاهاته الفكرية ومصادرها ومواقفه بالدراسة والبحث.
يعتمد صاحب "الجديد في القراءة العربية" (القدس، 1924)، في منهجه في التعليم والتربية، على قاعدة أن الأسلوب يأتي في مرحلة متقدمة على المحتوى، مشيراً إلى أهمية الأسلوب الذي يتم فيه تقديم المعلومة إلى الطلبة في وعاء تحفيزي ترفيهي: "تشويق لا إجبار: إذا شوقناه فكل صعب سهل، وإلا فكل سهل صعب".
لا يمكن لعملية التعليم أن تتم بعيداً عن عنصر سعادة الطلبة ومتعتهم أثناءها. داعياً في الوقت ذاته إلى الابتعاد عن الامتحانات كطريقة لتقييم الطلبة، معتبراً أن الامتحان لا يتعدى كونه وسيلة ترهب الطلبة وتساهم في تنفيرهم من التعلّم. وهو لا يخفي رغبته في الاستثمار في العملية التعليمية للمستقبل، إذ يجب أن تتعدى وظيفة التعليم حالتها الآنية المباشرة إلى نتائج بعيدة المدى: "إننا نعلّم طلابنا التاريخ لا ليعرفوا التاريخ ولكن ليكونوا مؤرخين،... نعلّم اللغة لا ليعرفوا اللغة، ولكن لينزلوا منها منزلة أهلها.. ونعلّمهم الرياضيات لتكون لهم أدمغة رياضية.. إلخ".
وبالعودة إلى اللغة العربية، فقد كان صاحب "الأصول في تعليم اللغة العربية"، من أوائل من واجهوا سيطرة اليونان على الكنيسة الأرثوذكسية حين دعا إلى تعريب لغتها، وتعريب الصلوات فيها. لم تتوقف مواجهة السكاكيني لسلطة اليونان على الكنسية في إطار مطالبته لها بتعريب اللغة، بل اعتبر أن هذه الكنيسة تعيد إنتاج دور طبقة رجال الدين (الإكليروس) في أوروبا العصور المظلمة من خلال سيطرتهم على الرعية باسم الدين والقداسة، ثم تحكّم رجالها بشؤون الناس على طريقة الراعي والقطيع والعصا، الأمر الذي دفع الكنيسة إلى إصدار أمر كنسي يحرمه من حقوقه، ويمنع على رعيتها مخالطته والإصغاء إلى آرائه، ثم رفضت تزويجه، وانتهى به الأمر ممنوعاً من دخول منزله، وهو منزل تابع لدير الروم في القدس، ليخرج السكاكيني بقوله الشهير حينها: "لا أستطيع أن أكون في الملة الأرثوذكسية بعد اليوم، لا أستطيع أن أكون تحت رئاسة هؤلاء الرهبان الفاسدين المنحطين، لست أرثوذكسياً بعد اليوم".
تبدو يوميات صاحب رسائل "إلى سريّ" التي كتب فيها مطولاً إلى زوجته سلطانة أولاً التي فجع بوفاتها وكتب في رثائها مطولاً ثم إلى ابنه سريّ أخيراً، ذات أسلوب جديد في الكتابة يخلو من الأسجاع والمحسنات البديعية، لغة واقعية مباشرة مزج فيها حسّه الأدبي ومهاراته الصحافية، وهو الاتجاه الكتابي الذي حافظ عليه السكاكيني في مقابل أسلوب مجايله محمد إسعاف النشاشيبي الذي يدعو إلى اعتماد الأساليب المقعرة في التعبير، ويحتفل بالفصاحة التقليدية والتراكيب التراثية.
وفي كتابه "مطالعات في اللغة والأدب" (القدس، 1935)، يذهب السكاكيني إلى التأكيد على الدور الذي اضطلعت به الصحف والمجلات الفلسطينية من تقديم لغة حديثة ومباشرة وموجزة، ومبتعدة عن التكلف، واصفاً الصحافة الكلاسيكية ذات اللغة المنمقة بالصحافة الأرستقراطية التي لا تلتفت لعامة الناس.
ولعل أبرز مواقفه السياسية، والتي بلا شك أملتها حالة التردي السياسي وسوداوية المآلات في تلك المرحلة ومخاوفه المتعاظمة من قرب ذهاب فلسطين إلى قبضة المشروع الصهيوني، إدانته للمقولة الشهيرة "فلسطين للفلسطينيين"، وهي مقولة كان يرى فيها فلسطين تواجه "الخطر اليهودي" وحيدة، الأمر الذي دفعه للمطالبة بالاستقواء بإحدى الدول العربية الكبيرة، مصر أو سورية، وهنا يقول في يومياته: "الرأي الغالب في الجمعية، أن تطلب الجمعية من مؤتمر الصلح حق اختيار الحكومة التي تريدها أسوة بسوريا والعراق. وهناك فريق آخر يرى أن تكون فلسطين للفلسطينيين. وكلا الرأيين فاسد، لأنهما يعنيان فصل فلسطين عن المجموعة العربية، فإذا فصلت فلا بد أن يكون مصيرها يهودياً".
في عام 1948 اضطره القصف الصهيوني لمنطقة القطمون في القدس إلى اللجوء إلى مصر، تاركاً بيته ومكتبته التي تعرّضت للنهب على يد الاحتلال أثناء عدوان 1948. وبعد سنوات قليلة من إقامته في القاهرة تلقى السكاكيني خبر وفاة ابنه (سريّ) الذي توفى في الولايات المتحدة إثر سكتة قلبية، وبعده بثلاثة أشهر، توفى خليل قسطندي السكاكيني في آب/ أغسطس 1953، ودفن في القاهرة.