ميشيل سير.. دون الوقوع في خطأ الفلاسفة

04 يونيو 2019
(ميشيل سير، تصوير: ليوناردو سيندامو)
+ الخط -

أختتمُ أسبوعَ حَيْرة وإرهاق بنبأ رحيل ميشيل سير، فَيلسوف فرنسا الـمُحبّب إلى سائر فئاتها، على اختلاف الأعمار والطبقات، تاركاً وراءه قرابة مائة تأليفٍ حول مسائل العِلم والفلسفة، آخرها كتاب "الأخلاق الجَذلى"، بعد أعمال شهيرة أخرى مثل "معجم العلوم" و"العقد الطبيعي".

أحزنني الخبرُ. لِلحظةٍ عابرة، تذكّرتُ لياليَ بغدادَ ومسامرات فلاسفتها الإنسانيين. فمثل أبي حيان، كان الرّجل موسوعيَّ التكوين، إنسانيَّ النزعة، انحدر من أسْرة نَواتي: عمل والدُه ملّاحاً يُسيّر القواربَ في نهر غارون. ولعلّ هذه النشأة على الضفاف هي التي وهبته انفتاحاً على الآفاق وعوَّدته الإبحار في لُجج المعارف وأنساق الفكر. وكذلك كانت أمواهُ دجلةَ والفرات تُلهم الأدباءَ وتغذو الفلاسفة.

بدأ حياتَه مدرّساً للفلسفة الكلاسيكيّة والحديثة، ثم توَّجَه إلى الآداب والصحافة والكتابة في شبكات التواصل. ومنذ سنة 1990، أصبح عضواً في "الأكاديمية الفرنسية" يتبوأ المقعد الثامنَ عشرَ، إقراراً بتأنقه في نحت الصيغ اللغوية البارعة وإمتاع الفكر بأسلوبه السلس: يتلاعبُ بالكلمات دون تكلّف وينطقها بأعمق التحليلات بلا إكراه. الوضوحُ مزيّته الرئيسة وبه أوصل الخطاب الفلسفيّ إلى عموم الناس عبر وسائط الإعلام. لعلّه من بين فلاسفة قلّة وفّقوا بين صرامة العقل ووضوح الأسلوب، كأبي حيَّانَ عندنا. وبِسلاسة عبارته، كان يطوف بقارئيه في أدغال الفكر الوَعرة ومجاهيل الميتافيزيقا الشائكة دون أن يتيهَ أحدُهما فيها.

خاض في قضايا التقنية والعلوم وآثارها السياسية والمجتمعيّة وما يترتب عنها من عنفٍ يمارس على الطبقات الكادحة فتظهر بينها نزعات التبشير وتنسج الطوباويات. وأعاد التفكير في "العقد الطبيعي" بين الأفراد وفي الأخلاق العقلية التي ينبغي أن ترسى بينهم في مجتمعات الغرب، اليوم. ورغم إقراره بتفكّك هذه الثقافة وانهيار قيمها، حافظ على تفاؤله ولم يستسلم للتشاؤم، أيضاً كأبي حيان الذي أحرق كتبَه وانعزَل عن فِتَن عصره.

لكن على العكس، كان صاحب "صديقي هيرجيه" منخرطاً في أحداث الساعة، يتعقّب ما يطرأ على عصره من تحوّلاتٍ. طيلة أربع عشرة سنة، كلّ يوم أحد، يقرأها ويستجلي دلالاتها. في برنامج "معنى الخبر" الذي يُديره ميشال بولاكو، المدير السابق لإذاعة فرانس-أنفو (فرنسا للأخبار، الإذاعة الأكثر متابعة في فرنسا) كان سير يتوجّه إلى جميع الفئات، في بيوتهم وسيّاراتهم ومنتجعاتهم، لإشاعة المعرفة وإيصال الفكر النقدي.

يتناول مواضيع مثل الشجاعة والشباب والكرم والشرف والبراءة والانتظار وغيرها من المحاور التي لا يتوقع أحدٌ أن تُستدعى إلى بلاط الفلسفة. ويَرفع التحدي باقتدار. فيتوسّع في فحص حضور التقنيات الحديثة في عالمنا وفضح سلطتها على الوعي، ويجول في قضايا البيئة منتقداً توظيفَها رهاناً في السياسة ومحوراً في الاقتصاد.

كانت مسامراتُه رؤيوية إلى حد بعيدٍ، يستبق خلالها ما آلت إليه أوضاع فرنسا، ويستشرف مصير مؤسساتها التي صارت، حسب رأيه، غير قادرة على استيعاب العالَم الحديث وضبط حركته بعد أن "تغيَّر الزمن" في حين ظلت هذه المؤسسات على حالها، تقادمت فغدت بلا صلةٍ بالواقع. وهذا خطأ الفلاسفة الذين لم يتصدوا لها، وجَبُنوا عن توجيه التاريخ. ومن أجل ذلك دعا بشدة، في سائر كتاباته، إلى فسح المجال واسعاً للإنسان وللثقافة ولمعرفة الماضي في سبيل بناء المستقبل واستشراف الآتي. وخلص إلى أنه في ظل هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي وانهيار القيم وطغيان التكنولوجيا، لا بد من عودة الفلسفة إلى العصر.

تعوّد المستمعون على صوته المتهدج ونبراته المسترسلة، حين كان يتفنن، "عفو البديهة ودون كدّ الروية" في نحت الصيغ الموجزة والعبارات الخارقة، يصف حالة العالم ويشرَح ما يجري في ساحاته. وقد يرسل نظرات ماكرة وبَسماتِ لعوبٍ أثناء حديثه. فتستمع إلى نبرة الفلسفة، كما لم تسمعها قطّ، تتجاوز أبراجَها العاجية وتمتزج بالأحداث الراهنة والوقائع المتداخلة. كان لها بالمرصاد، يقرأها بمنهجية صارمة، تمتح من أنساق الحكمة، المثالية منها والواقعية، ويربط بين ظواهرها بشكل غير مُتوقّع. في تحليلاته استباق وابتكار: يَستشرف ما سيصير إليه العالم ويكتشف علاقاتٍ ما كانت لتخطرَ على بالٍ.

كان الإنصات إلى تدخلاته الأسبوعية متعة متجددة يغذوها فَهمٌ فلسفيّ للأحداث. كنت أنتظر مَوعدَه، كل مساء أحدٍ، أختتم به أسبوعَ حيرةٍ وإرهاقٍ وأفتتح به آخَرَ، فتولد ساعاته الأولى على إيقاع تحليل نقدي تُجمّله نصاعة العبارة. وكان مُحاوِرُه، ميشال بولاكو، يناديه تارةً باسمه الأول وتارةً يطلق عليه: أخي ميشال!

مُرهَقاً، أستعيد مسامراتِ أبي حيان التوحيدي ومِسكويه: أصيخ إليهما، في نبرات ميشيل سير، يتَحاوران ضمن جمالية "الهوامش والشوامل"، في ليالي بغداد. ما أقربَ باريس من بغداد حين يلتقيان في النزعة الإنسانية. للأسف لم يقرأ ميشيل سير تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية، وفي المقابل لم تلتفت الثقافة العربية الحديثة إليه كثيراً.

دلالات
المساهمون