صدر قديماً: "طبائع الاستبداد".. كأن قرناً لم يمر

04 مارس 2017
الكواكبي (1854 - 1902)
+ الخط -

كتب عبد الرحمن الكواكبي "طبائع الاستبداد" متفرّقاً - قبل أن يجمعه في كتاب - وأول ما نُشر منه كان في صحيفة "المؤيد" المصرية بين عامي 1900 - 1902 إبان تغريبته التحرّرية ونزوحه من حلب إلى أكناف الخديوي عباس حلمي.

يمكن اعتبار الكتاب شاهد عدل على زمن انحدر بأهله من "كليلة ودمنة" الموضوع لوعظ الحاكم وزجره على ألسنة الحيوان ولكن بتصريح المؤلف عن شخصيته، إلى زمن يشير فيه مؤلف جليل إلى نفسه على غلاف كتابه باسم "الرحالة ك" خشية المؤاخذة والتنكيل.

في الصفحة اﻷولى من الكتاب كتب الرحالة ك: "هي كلمة حق وصرخة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح، لقد تذهب غداً باﻷوتاد" في إشارة واضحة إلى المرارة التي تجرّعها في عصره وفي استشراف مستقبلي لما سيقع من حوادث في العقد اﻷول بعد قرن من غياب صاحب الكتاب.

بلغة "مقتضبة" كما يصفها ومنهجية واضحة ومنطقية، يقسّم المؤلف كتابه بعد فاتحة ومقدمة إلى تسعة أبواب مبتدئاً بتعريف الاستبداد وخاتماً بكيفية التخلص منه.

يدرس المؤلف بداية علاقة الاستبداد بالدين ويخلص إلى أن طبائع المستبد تدفعه دفعاً إلى استغلال الدين وتشويهه بعيداً عن أصوله النقية، ﻷن ذلك الانحراف كفيل بجعل المستبد ولياً مطلقاً للأمر، يُنعم على من يشاء ويَنقم على من يشاء فترسخ سلطته ويجعل من جميع العوام عدواً لمن يعاديه.

بعدها، يتعرّض الكواكبي لعلاقة الاستبداد بالعِلم فيرى ببصيرة نافذة أن المستبد لا يُظهر عداوته للعلم بل يغطّيها ويموّهها، من خلال حرصه وتشجيعه على نشر جميع العلوم والمعارف المغيّبة للعقول عن شؤون حاضرها وأمور معاشها، ويقمع بأشد ما يكون القمع من يتعرّض من العلماء والمتنوّرين لمباحث مثل طرائق الحكم وسلطة الحاكم وحقوق الرعية.

ثم يعرض لعلاقة الاستبداد بالمجد فيرى أن المستبد قد أقام التمجّد الزائف محل المجد الحقيقي، وهو باتخاذه لمجموعة من طالبي المجد المنافقين المرائين (يستوزر أسافل الناس) ويُقصي خدام اﻷمة من الأباة المخلصين.

يعرّف الكواكبي المال بأنه دين الاستبداد وشرفه وحياته، ويبيّن بطريقة مفصّلة ودقيقة وبلغة عصره دور المال وسلطة الرأسمال في تثبيت قدم المستبد على رقاب أبناء شعبه، وطرائق المستبد في ذلك هي تشجيع الاحتكار ورعاية طبقة متموّلة موالية له وإشغال العوام بتحصيل قوت عيالهم عن التفكير في شؤون الحكم والدولة.

في الباب السادس، يعالج المؤلف اﻷخلاق في زمن الاستبداد فيرى رابطاً بينهما لم يره سواه، إذ إن المستبد بسلوكه مسلك الحاكم بأمره مضطر إلى الاستعانة بعصبة من فاقدي اﻷخلاق ممّن يسايرونه في أهوائه وهؤلاء هم سيوفه التي تبطش بالعامة فتنعدم ثقة مواطِن دولة الاستبداد بنفسه وبمن حوله، لشيوع النفاق والتجسّس فينزع نفسه من الشأن العام ويلتفت إلى بعض الملذات البهيمية.

في باب "الاستبداد والتربية"، يركز الكواكبي على أن المستبد يفرض على شعبه شكلاً من أشكال التربية يوافق سياسته العامة في حض الناس على الطاعة وحملهم على الدعة والمسكنة والقيام بشؤون عباداتهم إلى أن تنقضي آجالهم ويحين حينهم، ولا يرى مواطن دولة الاستبداد من جهته أية جدوى في تربية أبنائه ما دام الاستبداد سيفسدهم لاحقاً.

هكذا يخلص المؤلف إلى أن الاستبداد عدو الترقي وهو أبعد ما يكون عن طلبه وإن ادّعى ذلك كما يشرح المؤلف ﻷن من يحارب العلم والحرية والفكر ويشجّع التبعية ويرعى الجمود هو أبعد ما يكون عن الترقي.

في الباب اﻷخير، المكرّس لعرض كيفية التخلص من الاستبداد، رصف الكواكبي خمسة وعشرين مبحثاً يمكن تلخيصها بشروط ثلاثة: شعور كل اﻷمة أو جلها بالاستبداد وشروره، ثم مقاومة هذا الاستبداد باللين والتدرّج، فإعداد البديل الجديد الذي يجب أن يحل محل القديم عقب اﻹطاحة به مباشرة.


* كاتب ومترجم من سورية، تصدر ترجمته لـ"طبائع الاستبداد" إلى اللغة الكردية هذا العام عن منشورات "هنار" في القامشلي.

** "صدر قديماً"، زاوية جديدة في القسم الثقافي لموقع وجريدة "العربي الجديد"، تختص بتقديم قراءات في كتب قديمة صدرت باللغة العربية وما زالت تنبض بالراهنية.

المساهمون