مع أحد أخبار الاكتشافات الأثرية في مصر مؤخراً، برزت صورة يظهر فيها عالم أوروبي يقف وينظر من مسافة أمتار إلى عمال مصريين يقومون بعملية الحفر في موقع الاكتشاف. في حال غيّرنا ألوان الصورة نفسها إلى الأبيض والأسود، وقارناها بصور الاستكشافات الأوروبية القديمة في مصر وسورية والعراق، سنجد أنها تكاد تكون الصورة نفسها، ربما تبدّلت الوجوه لكن المنظر هو نفسه، حيث يقف الرجل الأبيض على مسافة أمتار من شباب سمر البشرة يقومون بالحفريات.
تحضر هذه الصورة عند الحديث عن فعاليات اليوم الدراسي الذي يقيمه "المعهد الفرنسي للآثار الشرقية" في القاهرة، اليوم، تحت عنوان "يوم البعثات الأثرية الفرنسية في مصر 2019" وفيه يشارك المسؤولون الرئيسيون عن أعمال هذه البعثات.
الفعالية مناسبة أيضاً لنربط هذا اليوم بالتاريخ الذي يقف خلفه، فقد ظهر علم المصريات كحقل دراسي في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وكان هذا الحقل أحد وجوه الاستعمار، فقد تزامن إنشاء علم المصريات الحديث مع ما يسمى بـ"الحملة الفرنسية" أو بالأحرى غزو مصر في عام 1798. كانت مهمة العلماء والباحثين الذين أتوا مع نابوليون، استكشاف مصر ورسم المناظر الطبيعية والآثار، بمعنى القيام بأول مسح علمي لمصر، وتم نشر نتائج الحملة في وصف مصر من قبل اللجنة الفرنسية للعلوم والفنون، ومنذ ذلك الحين أصبحت أوروبا مهيمنة على دراسة مصر القديمة.
كان علم المصريات الحديث من التخصّصات الأكاديمية التي تصوّرها الأوروبيون للأوروبيين فقط، وعن ذلك كتب الباحث كريستيان لانغر في ورقة بعنوان "استعمار غير رسمي للمصريات: البعثة الفرنسية" حيث يشير إلى أن علماء المصريات المصريين لم يلعبوا أي دور حتى عشرينيات القرن الماضي، ولم يكن المصريون سوى عمّال آثار مجهولين مرافقين للعالِم الأبيض.
في العقد الأخير، بدأ بعض الأكاديميين في جامعات أوروبية يدرسون الأدوار المختلفة التي لعبها المصريون في البحث عن تراثهم، وصولاً إلى الحديث عن فضل العمال المصريين في الاستكشافات الأثرية التي حققها علماء أوروبيون في القرنين التاسع عشر والنصف الأول من العشرين، من ذلك ما قدّمته الباحثة جوان رولاند في دراسة نشرتها في 2014 وثقت فيها الأشغال التي قام بها العمال المصريون مع الأركيولوجي الإنكليزي وليام بتري في أواخر القرن التاسع عشر، وسبقها الباحث ستيفن كيرك عام 2010 بدراسة مماثلة.
من جانب آخر، يتقاطع علم المصريات بالدراسات السياسية، من ذلك تكريس بعض الفرضيات التي ساهمت في خلق تصوّر مفاده أن مصر جُعلت لكي يكون حكمها أوتوقراطياً، والإصرار على ربط "المصريات" تحديداً بالفراعنة وهو ما يلغي بقية تاريخ مصر. فهل يحضر انتقاد مثل هذه النظريات في فعاليات "يوم البعثات الأثرية الفرنسية في مصر" أم أنه يأتي فقط ليبارك تكرار التاريخ لأخطائه؟