مَنْ قال؟
من قال
إنَّ الانتظارَ محطّةُ قطار
في شمال مالابار؟ وإن صباحاً
في لباس رسمي سوف
يصل إلى هناك في نعش؟
من قال
إنَّ الذاكرةَ نافذةٌ معطَّرةٌ
مفتوحةٌ على حقول ذرّة يانعة؟ وأن
أجسادنا تبرد
عندما تخفتُ الشمسُ هناك؟
من قال
إنَّ الأشجار كفّتْ عن اتّباع
لغة الرياح؟ وإنَّ علينا
أن نُخفي عن الزنابق والأرانب
أخبارَ موتِ الحُب؟
من قال
إنَّ أقمارَ اللحظةِ ستكون ثقيلة
كرأس سكّير؟ وإنَّ
قلوبَ المساءات ستكون مريضةً
كأغنياتٍ همسَ بها عاشق؟
من قال
إنّنا نجري حُفاةً فوق
حديدٍ محمّى وبيدنا حفنة
من مطر الطفولة؟ وإنّنا،
في نهاية الأمر،
سوف نسلّم مفاتيحنا إلى المطر ذاته؟
من قال
إنَّ الرجالَ آنَ يموتون يصبحون أكثر شباباً
ثم يلجون زمناً آخرَ؟
وإنَّ كلّ الطيور التي تلاشت عند المغيبِ
ستؤوبُ مع انتهاءِ الكلام؟
من قال
إننا سنفهم كلَّ شيء
دون أن يقولَ أحدٌ لنا أيَّ شيء؟
رغمَ أننا لن نشاطرَ أحداً
أيّ شيء مما نعرفه؟
■ ■ ■
ذات
لم تؤمن أمّي بالأمر
حين ظهرتُ لها سنةَ 1945
في منامٍ وأخبرتُها
بأني سأُولَدُ لها في السنة التالية.
عرفَني والدي
لحظةَ رأى الشامةَ
تحت إبهامي الأيسر.
لكنّ أمي كانت تؤمن حتى اللحظة الأخيرة
بأن شخصاً آخرَ وُلِدَ لها
متنكّراً بهيئتي.
أبي وأنا رجوناها الكفّ عن ذلك؛
لكن المنامات ليست شهوداً جديرة بالثقة.
وبقيتْ حتى مماتها بانتظار
ذلك الابن الموعود
فقط عندما وُلدتْ هي من جديد كابنةٍ لي
اعترفتْ بأن ذلك الولد كان أنا.
لكنني في ذلك الحين كنتُ قد بدأتُ أرتابُ
بأن قلبَ امرئ آخرَ
هو ما ينبض في داخلي.
ويوماً ما سوف أستعيد قلبي؛
وكذلك لغتي.
■ ■ ■
صبّار
الشوكُ لغتي.
أُعلن وجودي
بلمسة نازفة.
يوماً ما، كانت هذه الأشواكُ أزهاراً.
أمقتُ العشّاقَ الذين يخونون.
هجَرَ الشعراءُ الصحارى
عائدين إلى الجنان.
وحدها الجِمالُ تبقى هنا، والتجارُ،
الذين يمرّغون براعمي بالتراب.
ثمة شوكة لكل قطرةِ ماءٍ عزيزة.
لا أغوي الفراشات،
لا طيور تنشد في مديحي.
ولا أرضخ لمواسم الجفاف.
أخلق جمالاً آخرَ
ما وراءَ ضوء القمر،
فهذا الجانب من الأحلام،
هو لغة حادة، وثاقبة
وموازية.
■ ■ ■
بصمات
أرى هذه البصمات
على باب الحصن القديم:
بعضها انطبع في السخام،
وبعضها في الدمع،
بعضها لأولاد زقزقوا في المكان
وبعضها، لكبار تهاووا بسبب الجوع
قبل أن يستطيعوا الدخول،
بعضها، لشبّانٍ حاولوا
اقتحامه، فقط لكي يودي بهم تهورُهم
إلى ليلٍ بلا قرار.
وأنا أيضاً تركتُ على الباب
بصمةَ دمٍ:
كتذكار وتحذير
لأولئك الذين سيأتون:
تركتُ شِعري.
■ ■ ■
طقوس
طقوس هذا العالم
تربكني:
استيقاظ، طعام، عمل،
حُبّ، نوم:
كل شيء يبدو مبرمجاً.
في كلّ لفتةٍ وكلّ خطوة
أُنجز ببراعةٍ، بزينة وجهي
ومع ممثّلين من الكاثاكالي،
العرضَ المتقن.
وفي نومي أزأَرُ،
أرتدي إكليلاً من أحشائي،
وأشرب دمي.
■ ■ ■
خلود
آلاف الشعراء كتبوا الشعر
وأصبحوا طيَّ النسيان.
وبقي واحدٌ حياً في الذاكرة.
أنا أفضّل أن أُنسى
برفقة آلاف الأصحاب
على أن أكون المخلَّدَ الوحيد.
■ ■ ■
تحت الأرض
لم تصدّقني
عندما قلتُ إن هناك أجراساً
تحت الأرض، لكنك الآن
تسمعها. هناك
أشجار تحت الأرض، وحوش،
غابات، أنهار، محيط بأكمله،
شوارع، مدن، أعمدة نُقشت عليها فرمانات،
أديرة، ذكريات تتضاحك
كالأطفال، أحلام لم نشهدْها
على الأرض، أغنيات لم تُغنَّ،
حكايات لم تُحكَ ومن بينها
ماهابالي. عرائن أسود،
عرائن نارٍ، كهوف نُسّاك،
كهوف زلازل، جبال،
ثلوج، رياح، دوامات،
وأجراس. وتحت الأجراس
هناك مَن ينتظرنا،
عيناه دون بؤبؤين،
وذراعاه بيضاوان كالثلج.
تحت الأرض.
■ ■ ■
تَنَوُّع
النهر يتدفّق كما الأمس
الريح تهبّ كما الأمس
الشمس تشرق كما الأمس
تُزهر الأزهار كما الأمس
الفجر، الظهيرة، الغسق، الليل:
كلّ ما اعتدناه، كما الأمس.
لكنْ وحده حزني اليومَ
ليس كحزني في الأمس.
شكراً لهذا التنوُّع.
إنه يمنحني سبباً للبقاء على قيد الحياة.
■ ■ ■
أسماء
Ummukulsu
لم تحبّ Ummukulsu
اسمَها.
تشاجرت مع اسمها
وطردتْه خارج البيت.
قعد الاسمُ على درجات المدرسة
وبكى بصمت.
صديقي أبو بكر
الذي رأى الاسمَ يبكي
سأله: "مَن أنت؟
ولماذا تبكي؟"
"أنا اسمُ Ummukulsu.
ألقتْ بي خارج البيت. ماذا تُراها
تفعل دون اسم؟
لن يستطيع أحد أن يناديها.
ولن تكون في الصف الدراسي،
ولا في البيت ولا في القرية".
نادى أبو بكر
بصوت عالٍ: "يا Ummukulsu
التي أضاعت اسمها!" فالتفتتْ
Ummukulsu إلى الوراء.
هكذا استعادَ اسمُ Ummukulsu صاحبته:
أسماء شبيهة كثيرة ترى النور بهذه الطريقة.
■ ■ ■
المذكور أعلاه
كلّ الملكيات على الأرض
تعود لـ المذكور أعلاه
البيت، الأرض، الزوجة، الأولاد،
كلّ شيء يعود
لـ المذكور أعلاه.
وُلد المذكور أعلاه
باسم المذكور أعلاه
ومات باسم المذكور أعلاه أيضاً.
رأيتُ البارحةَ شبحَ
المذكور أعلاه. ولم يكن هو الآخر
مختلفاً عن المذكور أعلاه.
■ ■ ■
المكنّى بـ
شانكارا المكنى بـ رامانوجا
اثنان المكنى بـ واحد
وهم المكنى بـ حقيقة
هواء المكنى بـ ماء
بَرّ اسم مستعار بحر
مولد المكنى بـ موت
زمن المكنى بـ زمن
شِعر المكنى بـ شِعْر.
■ ■ ■
التعويذة
قتلتُك
موقناً بقدرتي على أن أبعثَك.
لكنني نسيتُ التعويذة
التي تُحْييك.
أنتظر، وسكيني لا تزال مفتوحة:
لعلّني أتذكر تلك التعويذة
إذا قتلتُ المزيد.
■ ■ ■
صلاة صندل خارج المعبد
أنت إسكافيّ الإسكافيّين،
العارف مقاسَ
كلّ قدم، وكم من الأميال عليها أن تسير.
رغم أني، وقد تحملتُ
الغبار والطين
والحصى والأشواك المسنّنة على جسدي،
أستلقي هنا، منبوذاً، بلا انتماء.
وهذا الرجل، الذي وصل إليك،
والذي بدت لي قدماه سليمتين،
يقف إلى جوارك في الصلاة.
فله الخلاص،
وليَ اللعنة.
اخلق هذا الرجل مرّة أخرى
على هيئة فردتيّ صندل
كي يستلقي هنا منبوذاً
خارج أبواب السماء
وعلى شفتيه صَلاتي.
■ ■ ■
شمشون
وجدتُ أسوداً قتْلُها سهلٌ
كما الأرانب؛ حوّلتُ الثعالبَ
إلى جهة المشاعل وأضرمتُ النارَ
في غلال العدوّ.
حطّمتُ بوابات المدينة،
ووضعتُها على قمة الجبل،
كما يفعل الإعصار. وقفتُ فوق
تلال الجثث
وضحكتُ مثل مخبولٍ ساخط.
لكن يا دليلة،
يا لحدائق عينيك المعلقة،
سيمفونيات أصابعك،
جرار نبيذ نهديكِ،
مهرجانات خصريك،
سنونوات قدميك:
كانت حواسُّ الرجل
هي التي جعلتني السجينَ.
دفَنَ الفلسطينيون إلهيَ
في ليلةِ كفْر.
أعطوني مقبرتين مظلمتين
بدلاً من عينيَّ الصافيتين.
أُنشِدتِ التراتيلُ لآلهة العدوّ
وهي تنقضُّ مثل الفهود
على بذور شَعري المتساقطة.
آه، يا عبيد إسرائيل،
آه، يا أيها الأنبياء الذين كُمَّتْ أفواههم،
لا تزال تحكمنا تلك الربّةُ الشرّيرة التي تخدع الأقوياء
وتوهِنُ أولئك الرائينَ.
يا دليلة، ما قلتُه لك ذات يوم
خطأٌ: إن سرّ قوّتي
لا يكمن في شعري، بل
في الجزء الذي يحرسون.
قد ولّى زمن الأبطال.
قد حُكم عليهم بالعيش
مع عضلاتهم المتورمة
في مجلات الأطفال الهزلية.
ومنذ اليوم أرفض
أن ألعبَ دور البطل.
■ ■ ■
جدتي
كانت جدتي مجنونة.
وحين وصلَ جنونُها حدَّ الموت،
أبقاها عمّي البخيل
في مستودعنا
وهي ملفوفة بالقشّ.
جفّتْ جدتي، انبجستْ؛
تطايرت بذارُها من النافذة.
طلعتِ الشمسُ وجاء المطر،
كبُرتْ شتلةٌ فأصبحتِ الشجرةَ
التي أنجبتني شهواتُها.
هل لي أن أقدّمَ بعض العون بكتابة قصائد
عن قرود بأسنان ذهبية؟
■ ■ ■
السطور التي بقيت سليمة
......................
................
..... ترتعش أيامنا
كأوراق شجرة
ميتة. أرواح تنفث كلٌّ منها الحياةَ
في الأخرى عبْرَ
أجساد متفحِّمة.
أريجُ شجرة الليمون
يجعل الظلامَ
شفافاً. في مساءات
العزلة، تصير الخسارةُ
طريقةَ حياة. تُغلق كلّ الكنائس
أبوابها إذ تسمع
أن المسيح يولَد من جديد....
الهند وفلسطين أيضاً
يُعتبر ك. ساتشيداناندان (1946) أحد أبرز شعراء الهند اليوم، ويحظى بتقدير كبير لمواقفه من قضايا بلاده، إلى جانب مواقفه من القضايا العربية، وفي طليعتها فلسطين، حيث ينشط في حركة مقاطعة "إسرائيل" في الهند. يكتب بالمالايالم، لغة ولاية كيرلا، ومعظم شعره مترجم إلى الإنكليزية، وهو من أوسع الشعراء الهنود مقروئية في العالم، وهو إلى جانب هذا، ناقد مؤثر له مجموعة من الكتب النقدية التي كتب بعضها مباشرة بالإنكليزية.
* ترجمة أحمد م. أحمد