حين تتسلح الضاد برّاً وجوّاً

01 ديسمبر 2018
استسلام الفرنجة بعد معركة حطّين، سعيد تحسين (1904-1985)
+ الخط -

تميّزت العربيةُ، منذ عصورِها الكلاسيكية، بوفرة الكَلِم الدالّ على السِّلاح. ففي القرن التاسع للميلاد، ألّف أبو عبيد القاسم بنُ سلام (774-838) كتاباً في أسماء الأسلحة، لعله أوّل الـمَعاجم المختصّة في هذا الحقل المصطلحي. كما نظم ابنُ سيده الأندلسي (1007-1066)، في مُعجمه "الـمُخصص"، فصلاً كاملاً لمفرداتها. وظلَّت عربية العهود الوسطى، ولا سيما أثناء الحروب الصليبية، تُواكب التطورات التي عَرفتها إنسانيةُ وقتئذٍ، فتسمّي ما تشاهده من سلاح أمم الفَرنجة وعُدّته، مع ثباتٍ نسبي لكلمات عتادها التقليدي، الذي ألِفَتْه في بواديها وحواضِرها.

ولعلَّ القفزة الكبرى تلك التي حدثت في القرن التاسعَ عشرَ حيث حفلتْ كتبُ الرحّالة العرب بوصف ما استحدثَته صنائعُ الغَرب، خصوصاً الفرنسية والإنكليزية، من أنواع الأسلحة خلال الثورة الصناعيَّة. وفي هذا الإطار، جديرٌ أن نستذكر نصاً ذا قيمة تاريخية صاغه، منذ قرنَيْن، المؤرّخُ ورجلُ الدولة التونسي أحمد ابن أبي الضياف (1804-1870) يصف فيه استعراضاً عسكرياً، أقامه ملكُ فرنسا لويس فيليب (1773-1850) على شرف أحمد باي، ملك تونس. جاء فيه: "تَوجَّه الباي إلى مَوضِع مُهِمَّات الطُبجيّة (المدفعية)، فرأى أنواع المَدافع وآلات جرّها والأسلحة على اختلاف أنواعها وأشكالها، مِن لَدُنِ ابتداء المُقاتَلَةِ بالسِّلاح إلى عصرنَا، والدّروع للفرسان والخيل ووقايات الرؤوس...". ثم يُسهب في وصف الاستعراض العسكري، الذي شكّل موضوعاً للعربية، لأول مرة في تاريخها. فكان له بعض فضلٍ في توليد مفردات جديدة، دلَّت على ما لم تعهده الضاد من مَرافق الحرب وأدواتها. ومع ذلك، يشي هذا النص بمدى قلقها حينئذٍ، لعجز كلماتها عن الاستدعاء الدقيق لمسمّيات القتال المبتكَرَة.

كما نَشطت، خلال تلك الفترة، الدروس والشروح والترجمات ذات الطابع الحربي. فمن ذلك أنَّ الطهطاوي (1802-1874) نقل مناهج التربية العسكرية وأسماء الأسلحة في "دار ألسنِهِ". وما هي إلا عقودٌ قَصيرة حتى أُنشِأت في المستعمرات الفرنسية معاهدُ للحرب وللعسكريين، مُقرَّراتها بالفصحى. ومن أشهرها "مكتب العلوم الحربية"، الذي تأسس في عهد أحمد باي عام 1840، بضاحية باردو. وكان هدفه تخريج الضباط والمهندسين. وقد أشرف مديره الإيطالي كاليغاريس على طاقمه من الأساتذة الإيطاليين والفرنسيين والإنكليز، قاموا بتدريس المصطلحات الحربية الشائعة في عصرهم وترجمتها. وللأسف، لم يحظ بعدُ ما أنجزه هؤلاء بأيَّة دراسة معجمية أو تاريخية شاملة.

ولعل أنشط ما كانت عليه الصحافة العربية أثناء الحَربيْن العالميتين، حين دُعيَت إلى تغطية أحداثها وفظاعاتها وما بات يُستخدم فيها من عادياتِ السلاح. ولا تخلو اليوم صحيفةٌ من ذِكر للأخبار ذات الطبيعة العسكرية، وهي حافلة بالمفردات المُشكِّلة لهذا الحقل الخصيب الرهيب.

ولمتابعة نشاط الضاد في تمثيله، يمكن أن نستحضر بعض أسماء الطائرات مثلاً: فهي "نفّاثة"، مصطلح صيغ على وزن اسم الآلة، واشتُقّ من جذر عريق: نَفَثَ. وأما "هليكوبتر" فمجرد اقتراض من الإنكليزية، يعايش، أحياناً في نفس النص، "مِروحية"، الذي صيغ أيضاً على وزن اسم آلة مشتقٍ من "ريح"، ثم أضيف له علامة النسبة.

ولعله من طرائف التسمية، عنواناً على اللاشعور الجمعي، أن يُختار من المتن اللغوي القديم جذرُ: "قتل"، بما يتوفر عليه من معانٍ ثوانٍ، فيُصاغ منه اسم فاعلٍ مؤنثٍ، "مقاتلة"، جرياً على اعتبار الطائرة مؤنثاً، (وما هي كذلك في الفرنسية ولا في الإنكليزية، وهل الجنس إلا محضُ تَحَكُّمٍ؟)، ترجمةً لـ: Chasseur الذي يعني، في لغة المنشأ: "صائد" أو "مطارد". وكلاهما غير دقيق ولا كافٍ، فَعُدل عنهما إلى صورة أقوى و"بالقتل" أعْلَق.

وفي نفس سياق الاقتراض والتعايش، نلاحظ تصاقُب رديفيْن هما: "درون"، والكلمة، كما هو معلوم، منحدرة من الانجليزية Drone ، و"طائرة مسيَّرة". ومن النعوت، رصدنا "مُجَوقَلة" واللفظة توليدٌ اعتمد النحتَ من "جوّ" و"مَنقول" ومعناه: "القوات أو الفرقة المنقولة جواً"، في ترجمة عربية للمصطلح الإنكليزي « Airborne » الذي لم يتوانَ منير البعلبكي، في "المورد"، عن إلحاقه بنحتٍ آخر من قَبيله، "مُهَوْمَل". والغريب أن هذا النحت مقلوبٌ، أنجز بعد تقديم وتأخير، في أسلوب أجازه اللغويون وسموه: "قلباً مكانياً".

ونلاحظ، في تسمية الطائرات، نزعةً أخرى تكمن في إطلاق المختصرات الرقمية Acronyme مثل: F16 وميغ 16...للإشارة إلى جيل منها، مع ما في كلمة "جيل" من استعارة تشخيصية، تُشبَّه فيها الطائرات ببني الإنسان. وتشي التسمية عبر الحروف والأرقام بإرادة الإمعان في التجريد وتثبيت الاسم، ولو مختصراً، ليَصيرَ "علماً بالغلبة"، كما يقول النحاة.

وفي حقل اصطلاحي آخر، يظهر هذا التعامل المزدَوج في إطلاق الرتب العسكرية واستحضارها بأعمدة الصحافة. فقد حَكَم الاستعمال بأن تُقترض هذه الأسماء من لغاتها الأصلية كما هي مثل: "ميجور"، "جنرال"، "أدميرال"، "أميرال" و"مارشال"... ولكن عند الحديث عن مقابلها لدى الجيوش العربية، يُلجأ إلى المصطلحات الفصيحة، لا إلى التعريب أو الاقتراض، فتشيع كلمات مثل: رُكن، فَريق، لواء، عَقيد وعميد... وقد يكون لهذه الازدواجية سبب يتصل بالرغبة في عدم المساس بالرّتب الرسمية.

وإذا ما أتينا إلى أسماء الجيوش ووحداتها وتشكيلاتها العسكرية، نلاحظ هيمنة النزعة الكلاسيكية في إطلاقها. فلدينا حقل كامل من المفردات التي تعود إلى صدر الإسلام مثل: سَريّة، كَتيبة، جيش، فيلق، فرقة، لواء، فصيل ورهط... ولا شك أنَّ لهذه العودة صلة بالنخوة التي صاحبت إنشاء الجيوش العربية بعيْد الاستقلال، حيث لجأت القوات المسلحة إلى استلهام ماضيها المجيد لتعبئة الجيوش وبث روح الحماسة فيها.

ومن جهة أخرى، هناك اعتماد على الترجمة، وأحياناً التفسيرية منها التي تفصِّلُ المدلول وتستعيده بالشرح. فتطفو عبارات مركبة مثل: "هندسة عسكرية"، "سلاح كيماوي"، "قوات الصاعقة"... والعبارة الأخيرة ترجمة لمجاز schock troops، عُدل فيها عن النقل الحرفي: "قُوات الصدمة"، لبرودها، واستعيض عنها بصورة الصاعقة التي تأتي بغتةً.

لا تظهر هذه الوسائل الاستحداثية المتضاربة قلقَ الضاد في تسمية السلاح فقط، بل وغياب استراتيجية واحدة في النقل والتوليد والترجمة، بسبب اعتماد وسائل متباينةٍ، وأحياناً متضاربة، مثل الاقتراض والاشتقاق. ولعل سبب هذا "القلق المصطلحي" هو اعتماد الدول العربية في تسلحها على الغرب وعلى لُغاتِه ورموزه. فصفقاتُنا تُعقد بالألسن الأجنبية فقط، أو بترجماتٍ تقريبية، لا عن قصورٍ لدى المترجمين، ولكن بسببٍ من التباس آليات التوليد وعدم توحُّدها بين مجامع العربية ومتكلميها. وهو ما يكرّس حالة تبعية واضحة في التقنيات العسكرية وفي أسماء عناصرها، التي تطاردها الضاد بكل عَتادها اللغوي والاستعاري. ونظنُّها حققت بعض نَصرٍ في "حربها المصطلحية" هذه.

دلالات
المساهمون