سولو

30 أكتوبر 2019
غيلان الصفدي/ سورية
+ الخط -

غريب ما تشعر به الآن وهي تمدّ يدها في الفراغ، تشعر أنّ هذه العتمة جديدة ومخيفة، يدها تنقبض وتعلو، عقلها يعمل كجناحي فراشة. تحاول مخيّلتها أن تنتشل شذرات لصور متبقيّة في قعرها، كي ترسم ملامح للجوّ الحاصل حولها، لكنّها تصطدم بالعتمة السّحيقة، تتمسّك بعكّازها وتعدل مكانه فوق الأرض، تتلفّت، الأصوات تتهيأ لها كالغيوم، تتكثّف وتتلبّد وتكتنز حتّى تصبح رعداً، تتخالط بحرارة أجسام الحشد، فتشعر بالمكان بركاناً على وشك الانفجار.

تفتّش عن مكان تجلس فيه، تساعدها يد على بلوغ الرّصيف، تقعد، تشعر بقدميها تشتعلان، تخلع حذاءها وتتركهما فوقه، فيما رأسها المكتسي بوشاح أبيض يتّكئ على العكّاز. تقول امرأة تجلس بجانبها على الرّصيف: "شو جابك؟"، لا تردّ، اعتادت سماع الانتقاد والشّفقة منذ عشر سنوات.

كان يوماً قائظاً من أيّام تمّوز، عادت من السّوق محمّلة بأكياس ملوّنة وكثيرة، رمت حقيبتها فوق السّرير، أخرجت هاتفها، انتبهت أنّ السّاعة تقارب السّادسة مساء، لم تكن غاضبة أو حزينة لغيابه، درّبت ذاتها على ما سمّته فراغ الرّوح، شعور متراخٍ ينساب هزيلاً بحياديّة، يجعلها لا ضجرة ولا سعيدة، هاتفت زوجها فلم يجبها، رمت الهاتف بعيداً وتوجّهت إلى غرفة الصّغير، كان يلعب، طلبت منه أن يستحمّ، ولمّا لم يسمع منها، غادرته مستسلمة لعناده وغير عابئة.

باتت تشعر أنّ علاقتها بزوجها مربوطة بخيط عنكبوت. لم يفعل سوى أنّه كان ينفخ على الخيط كلّما رآه فوق شبّاك قلبه كلّ صباح، ولم تفعل هي سوى أنّها كانت تعيد نسج خيطها الشّفّاف كلّ مساء. الغريب أنّها كانت تنسج خيطها موقنة أنّ حبّها سيلفّ قلبه، وأنّه كان يقطع الخيط وهو موقن أنّها غبيّة لدرجة لا تصدّق. الأغرب أنّ كليهما بقي في تلك الدّوّامة، هي لا تكترث لكثرة علاقاته، وهو لا يفكّر أنّها قد تعرف غيره.

كان الولدان في غرفتهما، زوجها تأخّر في الجامعة، شعرت بالضّجر، قامت إلى المطبخ، هاتفت أمّها ريثما تعدّ قهوتها، سمعت صراخاً آتياً من غرفة الولدين، هرولت، وجدت الصّغيرة معلّقة يدها بحافّة الشّبّاك، ما إن اقتربت حتّى سقطت... كان ذلك آخر ما رأته عيناها.
خلال السّنوات التي تلت طلاقها، لم تلتق بزوجها، هي اتّهمته بالتغيّب عن البيت بسبب علاقاته، وهو اتّهمها بالإهمال، أمّا ابنهما فاختار أن يعيش في بيروت مع جدّته لأبيه، الذي سافر ليقيم مع زوجته في فرنسا.

فوق الرّصيف الملتهب بحرارة شمس تشرين، كان الهتاف مشتعلاً، امتدّت يد طريّة، وضعت في يدها علماً، وقالت وهي تهرول: "قولي معنا..."، لم تكمل الصّغيرة المستعجلة جملتها، حاولت هي أن تستوقف الصّوت، لكنّه انفلت، شعرت أنّه ذهب عن شمالها، فقامت تلحق به، يمشي عكّازها قبلها، تعثّرت بالمارّين، وتلعثمت بكلمات الأسف المستعجلة، كان الصّوت يذوب في الهتاف وكانت هي تصيخ السّمع كي تجده، تتلفّت هنا وهناك، تفتح عينيها وترفع رقبتها تتنسّمه بين العابرين، من دون أن تهتدي إليه.

يلكزها أحدهم وهو مستعجل، يلطم وجهها العلم الذي يحمله، تقع نظّارتها على الأرض، ترتبك وتحاول التقاطها فتلمس يدها الإسفلت، تفتّش مسرعة، لكنّها لا تجدها، ترفع عينيها نحو السّماء، لا ترى إلّا سواداً، تستسلم وترفع جذعها عن الأرض، تبقى عيناها مفتوحتين، لا يلحظ المحيطون بها حركتهما المتوترة، الحماس لا يترك فرصة للتّوقّف مطوّلًا أمام عينين لا تريان، تحاول الرّجوع إلى الرصيف فلا تقدر، موج البشر يمشي بها معه، الهتاف عالٍ وموجع، تتخبّط، ينفلت عكّازها فلا تتمكّن من استعادته، تسحقه الأرجل السّائرة، تخاف، تتمسّك بذراع أحدهم، ينفلت هاتفاً وتبقى يدها معلّقة، تقف، وتمشي الجموع وتهتف، تبقى في مكانها كصخرة أمام الموج، الهتاف عال وموجع، والعصيان المدنيّ سيّد الموقف، تسمع أحد الشّباب عبر مكبّر الصّوت يشتم، والجماهير تردّ معه، ثمّ يغنّون "هيلا هيلا..."، تسأل ماضيها أين هو الرّيّس، فيعلو صوت عبر شاشة عملاقة معلّقة في ساحة الاحتجاج "علينا أن نكافح الفساد".

تهزّ رأسها غير مصدّقة، ترتفع يدها تريد مساعدة، لا تجدها، تمشي خطوتين، تخشى الوقوع فتصرخ: "أين أنت يا هدى؟"، تنادي عالياً "هدى هدى"، يذوب صوتها بعيداً "أمّي أنا هنا"، تركض نحو الصّوت، يلحظ المتجمهرون سيّدة تهرول وحيدة، حافية، فستانها يرتفع فوق ركبتيها، يسقط وشاحها الأبيض، عيناها مفتوحتان وعكّازها مسحوق وبعيد، يهرول أحدهم خلفها، يتبعه آخر ثمّ آخر ثمّ آخر ثمّ يصرخ الجميع "ثورة ثورة...".


* كاتبة فلسطينية مقيمة في لبنان

المساهمون