حين صار الخمر شِعراً في مسرحية الرحابنة

11 يناير 2020
ناصر حسين/ سورية
+ الخط -

لم أكن أنتبه إلى أنّ مساحات اللون السوداء التي كانت تغطّي جسد الفتاة، نجمة الغلاف، هي ليست من أصل الصورة حتى شاهدتُ مرّةً صورة هذا الغلاف بشكل مصغّر في داخل العدد.

كنت صغيراً لمّا كان أخي الشاب يشتري إحدى المجلات اللبنانية التي تهتم بأخبار نجوم الغناء والتمثيل، ولم أكن أكترث، أو بالأحرى، لم يكن الموضوع يثير اهتمام وتساؤلات الولد الذي كنت. عرفت لاحقاً أن المجلّة تقوم بإخفاء مفاتن النساء على غلاف المجلّة بـ اللون الأسود، أو تطبع غلافاً مغايراً للغلاف الأصلي (وجه النجمة فقط)، كي يصبح العدد مقبولاً في بلادٍ معينة.

وإن كان هذا الأمر يتعلّق بمجلّة يمكن أن نطلق عنها وصف الخفيفة، تتوخّى التسويق والانتشار والربح المادي أولاً، إلا أننا نكتشف لاحقاً أن أمر مراعاة الحشمة والأخلاق الحميدة لا يخصّ فقط هذا النوع وهذه الجهات، بل يُراعى أيضاً من آخرين نظن أنهم لا يهاودون في نشر أفكارهم كما هي من دون التفكير في الرقيب والمحاسب.


■ ■ ■


كان لدينا في المنزل شريط تسجيل (كاسيت) لمسرحية الأخوين رحباني وفيروز "ميس الريم" التي قُدّمت على خشبات المسرح في منتصف السبعينيات من القرن الفائت، وكنتُ من المولعين بالاستماع إليها. وقد حتّم علينا ترحالنا من بلد إلى آخر أن نسافر بأقل قدر من الحمولة، كما أن التقدُّم العلمي في مجال تقنيات الصوت والصورة جعلنا نخسر جزءاً لا بأس به من أشيائنا العزيزة، ومنها مجموعة شرائط التسجيل التي قد أصبحت في أيامنا هذه نوعاً من الأنتيكا غير الصالح حتى للعرض.

خسرنا تسجيل "ميس الريم" مع الجمهور الذي اعتدنا عليه وصرنا نسمع (ونرى أيضاً) نسخة أخرى من المسرحية مسجّلة للتلفزيون، لا جمهور فيها. في هذه النسخة المتلفزة نفاجأ بتغيّر في الحوار. ففي مقطع حواري بين "النسناس" الذي يقيم في ساحة البلدة و"زيّون" التي تعطّلت سيارتها فيها، يقول النسناس في نسختنا والتي حفظناها عن ظهر قلب: "بتعرفي؟ شو كانت الدنيا وحشة بلا سكريّة (من السُكر)، السكريّة قناديل الراحة بليل هذا العالم"، ويضيف أنَّ على المرء أن يشرب (الخمرة) كي ينسى الحقيقة... لم نُعر تلك الجملة أية أهمية حتى شاهدنا النسخة التلفزيونية مؤخّراً على اليوتيوب وقد صارت على الشكل الآتي: "بتعرفي؟ شو كانت الدنيا وحشة بلا شِعر، الشعراء قناديل الراحة بليل هذا العالم".

وقبل بضع سنوات، تعرّفنا عن طريق ابننا الصغير على سلسلة من الكتب المصوّرة بعنوان "مذكّرات طالب" وعنوانها الأصلي بالإنكليزية Diary of a wimpy kid (يوميات طفل جبان)، وهي مترجمة إلى أكثر من خمس وثلاثين لغة. مؤلّف هذه السلسلة هو كاتب أميركي من أكثر الكتّاب مبيعاً في العالم يُدعى جيف كيني.

أقرأ حالياً بالعربية الكتاب السادس منها، وهو بعنوان "جنون المنزل". تدور الأحداث في بداية الكتاب في الفترة الأخيرة من السنة (الميلادية). بعد التعريب، يصبح اسم هذه الفترة "موسم الاحتفالات" بدلاً من موسم الأعياد، وهي فترة تمتد بحسب التعريب أيضاً ما بين "مناسبة الشكر وعيد الشجرة". أمّا في الصفحة التالية فيكتب الولد في مذكّراته شيئاً عن "أبي الهدايا" وهو ما نعرفه في بلادنا باسم "بابا نويل" أو "سانتا كلوز"، بحسب اللغة التي اعتدنا عليها، فرنسية كانت أم إنكليزية.

دار النشر اللبنانية تكتب: "إن الآراء الواردة في هذا الكتاب لا تعبّر بالضرورة عن رأي الدار"، وإذا كانت تُخلي بذلك مسؤوليتها عن "الآراء" الواردة في الكتاب، فلمَ أصبح اسم السلسلة بهذه اللطافة، ولماذا صار "أبو الهدايا" يجلب الهدايا في "عيد الشجرة"؟

نتساءل أيضاً عن ذلك الاستغباء الذي يُمارَس بحقّ أولادنا هنا، حين يرى الولد/ القارئ في الكتاب رسماً للشخصية المعروفة من قِبَله جيّداً ويقرأ بقرب الرسم اسمها "أبو الهدايا". عندما يسأل الولد الفطن أحد الأبوين أو معلّمه عن تفسير، بماذا يمكنهم أن يجيبوا؟


■ ■ ■


سألني صحافي شاب قبل عشر سنوات، عندما كنت أُدرّس الفنون في جامعة دمشق، عن مفهوم الحرية في الفن التشكيلي، فأجبته، وكانت إجابتي عنوان مادته الصحافية يومها: "إذا كنا نخاف الحاكم السياسي، ألا نخاف الحاكم الديني والحاكم الاجتماعي؟".

السؤال يمكن أن يكون صالحاً لكل أنواع الفنون والآداب على ما نعتقد، والإجابة عن هذا السؤال بقيت هي نفسها لم تتغيّر.


* فنان تشكيلي سوري مقيم في ألمانيا

المساهمون