امتلأت ثقافتنا في السنوات الماضية بالجعجعة الصاخبة عن "الآخر" والحوار مع الآخر.
الطريف أننا لا نجد تعريفاً لا لهذا ولا لذاك من الآخرين سواء في المقالات والكتب، أو في الأحاديث الشفوية. ولكن قد نستطيع القول إنهم كانوا يعنون به ابن الوطن ذاته، وليس أبناء الشعوب الأخرى، فهؤلاء لا مشكلة حقيقية معهم أو تجاههم.
ولكن الحروب الكبيرة والصغيرة التي شهدتها بلادنا، أكدت أن تلك الجعجعة إنما كانت تشير إلى الرغبة بعدم الاعتراف به، حين نسمي أنفسنا مقرّري الحوار أو عدم الحوار. وسرعان ما أفضى هذا إلى انقراض هذه المفردة. فاختفى الآخر من حياتنا الفكرية منذ أكثر من سبع سنوات. اختفى الآخر بوصفه شريكنا، وأبعد جهراً، لم يعد مقبولاً بأي طريقة أو أي وسيلة.
وإذا كان المثقف والسياسي هما اللذان كانا يتحدثان عن ضرورات وجود الآخر، والتحاور معه، ومنحه الفرصة الكافية كي يعبّر عن نفسه، ويقدم أفكاره، وكان الآخر يبدو أنه الحبيب والصديق والجار والقرين والمشارك الذي يمدّون له يد الحوار، فقد أدار الجميع ظهورهم لما كانوا يعتبرونه شعاراً حياتياً. وبقدر ما بات الآخر بعيداً، صار الشعار كذبة، كما الحوار معه.
فلقد كشفت السنوات الماضية، أي منذ عام 2011 حجم الزيف والادعاء والتزوير والمداهنة التي كان معظم من يتحدثون بممكنات الحوار مع الآخر يضمرونها خلف أصواتهم العالية المنادية بهذا المطلب. بتنا بعيدين للغاية عن أجواء الحوار، فكلما تقدم الزمن بنا، زاد حجم الصراع والاقتتال، وزادت المذابح. وكلما سقط قتيل أو سالت دماء، ألغت الأطراف المتحاربة أو المتصارعة أجزاء من اقتراحات العيش المقبل المحتمل مع الآخر.
لم تكن القضية دجلاً في الفكر وحسب، بل في الحياة ذاتها. تلك الحياة التي لم يدافع عنها مثقف الحوار حين عمد السياسي إلى تحطيمها برصاصاته ومدافعه، وحين نتذكر كمية "الآخر" التي حشيت بها النقاشات القديمة في السنوات التي سبقت ربيع العرب، وحجم الارتداد الذي صاحب السنوات التالية، ندرك أن المسألة كانت تمثيلاً رديئاً، أو كانت ترى الآخر عدواً مؤجلاً حان الآن موعد الكشف عن حقيقة الموقف منه ومن وجوده. إنه العدو. والعجيب أن يكون هذا العدو من الدين الآخر أو الطائفة الأخرى أو المذهب الآخر أو القومية الأخرى من الذين يعيشون معاً في بلد واحد.
وهكذا فإن الكثيرين ممن كانوا يتبنون فكرة الآخر والحوار مع الآخر، صمتوا تجاه المذابح التي كان هدفها هذا الآخر ذاته، وصمتوا تجاه التدخلات العسكرية الأجنبية التي تقتله، ومن بينهم من أيد هذا التدخل بلا تردد؟ والغريب أن يكون العالم كلّه قد أخذ هذه الوجهة، وأفظع ما في الأمر أن يتفق الجميع على آلية جديدة لمواجهة استحقاق الكف عن احترام الآخر هي آلية "الصمت" المدعومة باقتراح جديد: لقد وجد الحل في مفردات أخرى توفرت بكثرة. يمكن أن تكون "الإرهابي" أو "الطائفي"، وقد تقدمت لكي تريح "ضمير" كل من أراد أن يتخفف من وجود الآخر.